الجمعة 2024/04/26 الساعة 12:57 PM

الجوال كمنتج لتنميط وترشيد حياة الفرد والمجتمع

الأحد, 02 يونيو, 2019

يحقق العالم طفرات اقتصادية نحو ترشيد الاستهلاك، بما يخدم رفع كفاءة الإنتاجية واستمرارها، إلا أنه يُخفق حينما يكون ذلك الترشيد على حساب الحياة الاجتماعية للفرد والمجتمعات، الأمر الذي يدفع نحو تنميط الحياة وتقويض الاستقلال.

وأنا أتأمل الجوال المحمول على سبيل المثال للترشيد والتنميط، كانت علاقاتنا الأسرية حافلة بالحضور المستمر، لا يكاد يمر عليك يوم دون أن ترى كل وجوه العائلة، تتبادل معهم الكلام والضحك والفرح، تجمعكم أصغر المناسبات، يعمنا أثر الضرر إذا ما حصل شيء في غضون دقائق، فنتفاعل معه كجسد واحد.

كنا إذا حصل عُرس لأحد الأصدقاء في القُرى المجاورة التي تبعد أحياناً قرابة 3 إلى 4 كيلومتر عن بعضها، يأتي الشباب مشياً على الأقدام لكي يحيوا هذه المناسبة، فتجد كل قرية لها مُمثل في هذه المناسبة من عموم قُرى المديرية، فتعم الفرحة المديرية كُبنية واحدة متماسكة، وهكذا في الأتراح نحزن جميعاً.

كان الأصدقاء تجمعهم الأسمار، والمثقفين تجمعهم صوالين الأدب، وطلاب المدارس والجامعات تجمهم المذاكرة سوية، كان الموظف ينسى عمله تماماً بعد أن يُكمل مهامه، ولا يلحق به العمل إلى البيت، والمغترب ينسى الغربة حتى يعود إليها، كان المغتربون في التسعينات قبل أن يصل الجوال والتلفون الثابت، يرسلوا تحاياهم وسلامهم عبر شريط مسجل بصوت المغترب، فلا نسمعه حتى يلتم كل أفراد العائلة حول المُسجل، فيبدأ بالتحية لكل فرد بالإسم، فنفرحُ إذا ما سمعنا أسمائنا ، فتنتابنا موجة فرح وسعادة لا توصف، مما يُسهل علينا حالة الفقد التي يعيشها أفراد العائلة جراء إغتراب الأب.

اليوم إذا سمعت عُرس في نفس القرية تكتفي بإرسال تهنئة على الواتساب، إذا مات قريب لصديقك تكتفي بإرسال تعزية منسوخة، يتداولها الجميع بشكل مُقزز، ومثيلاتها تُعمم في المناسبات والأفراح والأتراح والأعياد ويوم الجمعة الخ....

اليوم مجموعة في الواتساب كفيلة بأن تعمل فيها اجتماع تناقش فيها الأفكار، يلتقي فيها الأصحاب، يُذاكر فيها طلاب المدرسة، بل أن هناك مدارس باتت تُسمع للطلاب وتختبرهم عبر مجموعات واتساب يُضم فيها الآباء والطلاب والمدرسين. اليوم طلاب الدفعة تضمهم مجموعة، أبناء القرية يكتفون بمجموعة، الهيئات المؤسسات التجماعات وهلم جر.

في السابق كان المغترب يضطر لأن يشحن رصيد الجوال لكي يتصل لأقاربه وأهله، فيحس أن العناء وراء بذل المال والإتصال مقابل سماع أفراد العائلة الواحد تلو الآخر، يواسيه في غربته ويعزز لديه قيمة التراحم، ويجعل روابط العائلة فوق المال، اليوم بات اتصاله مُرشد حسب تواجد الإنترنت، وبات على كل الأقرباء أن يكون لديهم إنترنت، وجوال محمول، ما لم فلا لوم عليه إذا لم يتصل، كونهم لا يمتلكون إنترنت، وإذا توفر الإنترنت فرسالة مذللة بالورد والأشكال المقززة التي ربما لا يفتحها المتلقي.

كانت الرسالة التي تأتيني في الأعياد قبل أن تأتي الجوالات الحديثة، تبعث في نفسي الفرح، إذ كنت أعلم أن المُرسل تكلف في شحن رصيد الجوال، وقد خصني من بين جملة كبيرة من الأصدقاء، فكنت أعُد نهاية العيد الرسائل التي وصلتني، فأشعر بقيمة الود والقرب لمن خصوني بالتهنئة، أم اليوم فتأتيني مئات الرسائل على الواتساب المتشابهة والمنسوخة، والأناشيد والفيديوهات، التي اضطر أن أعمل لها نهاية العيد تحديد الكل كمقروء، ثم مسح الدرشات، من أجل مساحة التخزين في الجوال.

مع أننا نقر بأن الجوال سهل على الإنسان أشياءكثيرة، وفتح له نافذة يطل من خلالها على العالم والعلم، وسهل له الكثير من الأعمال، إلا أن كل ذلك كان على حساب جملة كبيرة من القيم الإنسانية والروابط الاجتماعية، إذ سعى نحو الحد من الاستقلالية الفردية، واكتحام الحياة الخاصة للفرد وتفكيكها، وتنميطها وتحجيم تفاعلها بمن حولها في المجتمع.

أصاب بالذهول حينما أركب وسائل النقل، كل راكبيها مدنيين الرؤوس فوق جوالاتهم، لا تكاد تسمع صوت، لا تواصل، لا فعل للإنسان في تلك اللحظات ينم عن إنسانيته، اللغة تموت فلا تسمع سوى صوت الآلات تخبرنا عن المحطة القادمة. 

يقولون في علم الاجتماع، الإنسان كائن اجتماعي، لا وجود له خارج شبكة العلاقات الاجتماع التي تحيط به.

من صفحة الكاتب على الفيس بوك
 

عن العلو والتجاوز


الأحد, 07 يوليو, 2019