برعاية إماراتية وترتيبات الانتقالي .. إسرائيل على أبواب عدن

برعاية إماراتية وترتيبات الانتقالي .. إسرائيل على أبواب عدن
أحمد الزرقة
أن يظهر فريق من صحيفة "جيروزاليم بوست" في عدن لم يكن حدثا صحفيا تقليديا، بل تطورا لافتا يعكس انفتاح أبواب كانت مغلقة لعقود أمام إسرائيل، في وقت يتنامى فيه اهتمام تل أبيب باليمن مع استمرار حرب غزة والضربات التي نفذتها في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وطهران. الزيارة التي اتخذت طابعا إعلاميا حملت في الوقت نفسه أبعادا سياسية واضحة، حيث التقى الوفد بقيادات محلية وتجول في بعض الجبهات بدعم من المجلس الانتقالي وبرعاية إماراتية. هذا الحضور يشير إلى انتقال العلاقات من مستوى غير معلن إلى خطوات عملية ملموسة على الأرض.
ولم تكن الزيارة عابرة، بل جرت بترتيب منظم وتحت غطاء مزدوج: غطاء “صحفي” أعلن عنه، وغطاء “سياسي – أمني” وفره المجلس الانتقالي الجنوبي. المعلومات التي حصلنا عليها تقول إن الدخول تم عبر مطار عدن، ثم نقل الفريق الذي وصل تحت لافتة منتدى الشرق الأوسط، والذي ضم جوناثان سباير ومايكل روبين، إلى مقر الانتقالي هناك تحت مرافقة مباشرة. وبحسب خبر رسمي نشره المجلس الانتقالي الجنوبي على موقعه الإلكتروني بتاريخ 14 يوليو 2025، استقبلت الهيئة الوطنية للإعلام الجنوبي الوفد في مقرها بعدن، بحضور مختار اليافعي نائب رئيس الهيئة، علي الهدياني السكرتير الصحفي لعيدروس الزبيدي، وسمر أحمد.
ويذكر أن "مايكل روبين" من أكثر الأسماء التي روج لها إعلام الانتقالي، وكتب تقارير عدة ضد الشرعية اليمنية، كان آخرها اتهامات للرئيس رشاد العليمي بالتخابر مع مليشيا الحوثي، وهو ما يكشف طبيعة الاصطفاف السياسي والإعلامي المصاحب لهذه الزيارة.
خلال الزيارة، التقى "سباير وروبين" بعدد من القيادات العسكرية والسياسية، بينهم اللواء الركن صالح حسن في عدن، الذي قدم لهما باعتباره أحد كبار القادة المناهضين للحوثيين. كما التقيا بوزير الدفاع في الحكومة المعترف بها دوليا محسن الداعري، الذي تحدث عن خطط عمليات مشتركة وتعثرها. ومن هناك، توجه الوفد إلى جبهات الضالع وشبوة، ولا سيما محور الضالع/دمت–الفاخر، حيث التقيا قادة ميدانيين من قوات الحرس الرئاسي التابعة للانتقالي، بينهم قائد محلي أُشير إليه باسم اللواء عبدالله الذي شرح الوضع التكتيكي قرب منطقة الفاخر، بحسب ما نشره الصحفي في مقاله على صحيفة "جيروزاليم بوست".
بهذا، تكشف الزيارة أن التحركات الميدانية للوفد لم تكن ارتجالية، بل جرت تحت إشراف مباشر من المجلس الانتقالي ومرافقة قادته العسكريين والسياسيين، ما منحها غطاء أمنيا وتنظيميا كاملا. والرسالة المقصودة كانت واضحة: أن الانتقالي يقدم نفسه للعالم، بما فيه لإسرائيل، بوصفه القوة المنظمة القادرة على إدارة الأرض وخوض المعارك، وتقديم خدمات خاصة لأي قوة خارجية، بما في ذلك إسرائيل، مقابل استمرار دعمه وتمكينه من حلم الانفصال — كما كتب نائب رئيس المجلس الانتقالي هاني بن بريك في تغريدة نشرها بتاريخ 10 يوليو 2017 على حسابه في تويتر أنه مستعد للتحالف حتى مع الشيطان من أجل تحقيق هدف الانفصال.
وراء هذا المشهد، تقف أبوظبي بيدها الطولى. فمنذ توقيعها اتفاقيات أبراهام عام 2020، وضعت الإمارات اليمن ضمن خرائط نفوذ جديدة ترسم بعناية، حيث لا يقتصر الأمر على تقديم الدعم العسكري والسياسي للانتقالي، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة هندسة المحافظات الجنوبية لليمن ضمن شبكة التطبيع الإقليمي. في جزيرة "ميون" أقيمت مدارج وقواعد عسكرية تحت إدارة إماراتية، لكن تقارير عدة تحدثت عن حضور إسرائيلي استخباري يتنامى هناك. وفي سقطرى، تلك الجزيرة الفريدة في قلب المحيط الهندي، لم تتوقف الوفود الإسرائيلية التي دخلت تحت غطاء “السياحة والبحث البيئي”، فيما الحقيقة أن الجزيرة تتحول تدريجيا إلى منصة مراقبة متقدمة في واحد من أهم الممرات البحرية في العالم.
وفي هذا السياق لا يمكن إغفال ما جرى في جزيرة عبد الكوري، إحدى جزر أرخبيل سقطرى، حيث افتتح مطار عسكري جديد بترتيبات إماراتية بحتة، دون علم أو إشراف الحكومة الشرعية اليمنية، بل إن مسؤوليها لم يسمح لهم حتى بزيارته. هذا المطار، الذي بني على أرض جزيرة صغيرة بالغة الأهمية في قلب البحر العربي، تحول فعليا إلى منشأة عسكرية مغلقة، يثار الكثير من الحديث عن كونه يدار بتنسيق إماراتي–إسرائيلي ويستخدم كقاعدة متقدمة للعمليات الاستخبارية والرقابية. أهمية عبد الكوري تكمن في أنها تتحكم بمسار الملاحة من المحيط الهندي إلى باب المندب، ومن ثم فإن وجود قاعدة عسكرية هناك يعزز شبكة السيطرة على الممرات البحرية، ويضيف بعدا جديدا إلى مشهد التغلغل الإسرائيلي في البحر الأحمر.
البحر الأحمر وباب المندب… قلب الصراع
لم يكن البحر الأحمر مجرد ممر مائي عادي، بل ساحة صراع ممتدة بين العرب وإسرائيل. فمنذ حرب أكتوبر 1973، حين أغلق مضيق باب المندب فعزل ميناء إيلات الإسرائيلي عن طرق التجارة البحرية، صار هذا المضيق في الوعي الاستراتيجي الإسرائيلي خط حياة لا يقل أهمية عن قناة السويس. وقد جاء في دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS عام 2021 أن: (مضيق باب المندب يعد شريان حياة لا يقل أهمية عن قناة السويس بالنسبة لإسرائيل، وأي تهديد لإغلاقه يعني عزل ميناء إيلات وإحداث شلل في التجارة الإسرائيلية نحو آسيا وأفريقيا).
وتدرك إسرائيل أن السيطرة أو الشراكة في هذا الممر تعني امتلاك ورقة قوة كبرى في وجه خصومها. ولهذا، ركزت خلال السنوات الأخيرة على بناء تحالفات أمنية واقتصادية في البحر الأحمر. كما جاء في ورقة لمعهد الشرق الأوسط MEI في واشنطن عام 2022 أن: (البحر الأحمر تحول إلى محور أساسي في الاستراتيجية الإسرائيلية، حيث يجري بناء تحالفات أمنية جديدة لضمان أمن الملاحة والتجارة من قناة السويس إلى باب المندب، مع اعتبار اليمن بؤرة تهديد وفرصة في آن واحد).
وبالنظر إلى أن مضيق باب المندب يمثل وصلة حيوية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط عبر قناة السويس، فإن التحكم به أو التواجد العسكري عنده يعني امتلاك عنصر مفصلي في معادلات الأمن البحري الإقليمي. ومن هنا فإن أي وجود إسرائيلي مباشر أو غير مباشر في عدن، ميون، سقطرى، أو عبد الكوري ليس تفصيلا عابرا، بل تحول استراتيجي يعيد رسم التوازنات العربية والإقليمية على حد سواء.
طارق صالح والانتقالي في خدمة المشروع الإماراتي
لا يقتصر المشهد على الانتقالي وحده؛ فطارق صالح، قائد ما يعرف بقوات “المقاومة الوطنية”، يتحرك أيضا في إطار المشروع الإماراتي، حيث يتركز نشاطه على الساحل الغربي بما يضمن وجودا عسكريا موازيا يمسك بخطوط الملاحة. هذه الترتيبات تخدم في النهاية الهدف ذاته: تكريس نفوذ أبوظبي ومن ورائها تل أبيب في السواحل والجزر اليمنية. قادة المجلس الانتقالي وطارق صالح يبدون كأذرع مختلفة ليد واحدة، تعيد صياغة المشهد اليمني بما يوافق المصالح الإماراتية والصهيونية، لا بما يخدم اليمنيين أو قضيتهم الوطنية.
ولا يتوقف دور طارق صالح والزبيدي عند إدارة قوات محلية أو تشكيل أذرع عسكرية موازية، بل يتعداه إلى تأمين القاعدة العسكرية في جزيرة ميون التي أنشأتها الإمارات وسط البحر الأحمر. هذه القاعدة لا تخضع للشرعية اليمنية، ويمنع على أي مسؤول يمني زيارتها أو الإشراف عليها، بينما يجري استخدامها عمليا من قبل القوات الإماراتية بالتنسيق مع الأمريكيين والإسرائيليين. وهكذا، يصبح من مهام طارق والزبيدي ضمان أن تبقى هذه المنشأة الاستراتيجية في مأمن من أي تهديد محلي، وأن تؤدي دورها كعين متقدمة تراقب الممرات البحرية عند باب المندب، بعيدا عن أي سيادة وطنية يمنية.
المجلس الرئاسي وصمته المريب
أما المجلس الرئاسي، فيبدو عاجزا عن لعب أي دور حقيقي في مواجهة هذا الاختراق. صمته المريب أمام تحركات الانتقالي وطارق صالح يطرح سؤالا جوهريا: هل هو شريك في الترتيبات، أم مجرد واجهة شكلية تستخدم للتغطية على مشاريع تتجاوز سلطته؟ في كل الأحوال، غياب موقف حازم من المجلس يترك الباب مفتوحا أمام التغلغل الإسرائيلي–الإماراتي في المحافظات الجنوبية لليمن، ويحرم الشرعية اليمنية من فرصة حماية ما تبقى من السيادة الوطنية.
مخاطر التخادم مع إسرائيل على مستقبل اليمن
إن أخطر ما في هذا المسار ليس فقط في تمكين إسرائيل من السيطرة على ممرات اليمن البحرية، بل في تحويل القضية اليمنية نفسها إلى أداة ضمن أجندة خارجية لا علاقة لها بمصالح البلاد العليا. التخادم بين بعض القوى المحلية وإسرائيل يعني ببساطة تقويض أي أفق لاستعادة الدولة اليمنية، وضرب مقومات هويتها ووحدتها الوطنية. فحين تصبح عدن والجزر اليمنية مراكز نفوذ لقوى أجنبية، فإن الحديث عن "استعادة الدولة" يفقد معناه، وتتحول الهوية اليمنية الجامعة إلى فسيفساء ممزقة تستعمل لتبرير مشاريع إقليمية ودولية. وهذا مسار إن ترك دون مقاومة سيجعل من اليمن بلدا بلا سيادة، معرضا لأن يفقد دوره ومكانته في محيطه العربي.
الخطر هنا يتجاوز حدود اليمن إلى الأمن القومي العربي برمته. فإذا كان باب المندب قد شكل لعقود أحد خطوط الأمان الاستراتيجية للعرب، فإن تحوله إلى ممر مراقب إسرائيليا سيغير قواعد اللعبة في المنطقة. لم يعد الأمر مقتصرا على فلسطين أو على صراع حدودي في الشام، بل نحن أمام اختراق مباشر لخاصرة الجزيرة العربية. وصول إسرائيل إلى عدن، وإن كان مغلفا بغطاء إعلامي أو بحجة مكافحة الحوثيين، يعني أن البحر الأحمر لم يعد بحيرة عربية كما كان يقال، بل فضاء مفتوحا للنفوذ الدولي الذي يفرض نفسه بالقواعد والمنشآت، لا بالتحالفات الشكلية.
أما اليمن، ذلك البلد الذي يئن تحت وطأة الحرب والفقر والتشرذم، فيجد نفسه اليوم أمام استحقاق أخطر: أن تتحول قضاياه الوطنية، وعلى رأسها القضية الجنوبية، إلى ورقة في بازار إقليمي، تستعمل لتمرير مشاريع لا علاقة لها بمصالحه ولا بمستقبل أبنائه. الانتقالي الذي يرفع شعار "استعادة الدولة"، يجد نفسه في الواقع يضع مفاتيح عدن وباب المندب في يد أبوظبي، والأخيرة تفتح الأبواب على مصراعيها لتل أبيب.
إن ما يجري اليوم يجب أن يقرأ بوعي تاريخي؛ فالخريطة العربية تعاد صياغتها من الأطراف، وحين تخترق المحافظات الجنوبية لليمن بهذه الطريقة، فإن تأثيره سيمتد إلى قلب الخليج ومصر والسودان وشرق إفريقيا. إنها ليست لعبة محلية، بل ترتيبات كبرى يشارك فيها لاعبون دوليون، فيما يظل العرب واليمنيون خصوصا الغائب الأكبر عن تقرير مصيرهم.
ما نراه ليس حدثا عابرا، بل بداية مسار إذا لم يكسر الآن فسوف يترسخ لعقود. ومعناه ببساطة أن إسرائيل، الكيان الغاصب لفلسطين، لم تعد محصورة في حدود الأرض الفلسطينية المحتلة، بل تمددت بخطوات ثابتة إلى البحر الأحمر، على مقربة من عدن وسواحل اليمن. وإذا لم تدرك النخب العربية خطورة هذا الاختراق، فإن السنوات القادمة ستشهد واقعا جديدا: إسرائيل ليست فقط كيانا مزروعا في قلب فلسطين، بل أصبحت لاعبا حاضرا عند البوابات الجنوبية للأمة العربية.
* (المصدر أونلاين)