الاربعاء 2025/09/10 الساعة 07:45 PM

وداعا مشعجل .. صوت المهرة العابر إلى كل اليمن

الاربعاء, 10 سبتمبر, 2025 - 05:22 مساءً
وداعا مشعجل .. صوت المهرة العابر إلى كل اليمن
المهرة خبور -  أمين بارفيد

 

على طريقة الذين يواجهون ضجيج العالم بنغمة واحدة صافية، جاء محمد مشعجل من أقصى الشرق، من المهرة التي تعرّف نفسها بالبحر والصحراء والهدوء، يحمل في حنجرته تعريفا آخر لليمن. لم يقل كثيرا، ولم يطلب من الضوء إذنا، اكتفى بأن يغني؛ فإذا بالأغنية تفعل ما لا تفعله حكومات، تطمئن، وتجمع، وتدل على الطريق.

نودعه اليوم، فنكتشف أننا لا نرثي فنانا فحسب، بل نودع نافذة كانت مفتوحة على شرق يمني نحتاجه لاستعادة توازن الصورة واكتمال النغمة. عرفه الناس سفيرا للأغنية المهرية، لا بلغة المراسم، بل بقدرته على حمل لغة قومه إلى مسامع اليمنيين والعرب كما هي، بوقار البادية، ووداعة الساحل، وصلابة الداخل. لم يتنكر لخصوصيته ليصير اوسع انتشارا، بل جعل من الخصوصية جسرا إلى المشترك اليمني والعربي.

مشعجل ابن المهرة، من قبيلة رعفيت؛ هناك حيث يتجاور الرمل والخضرة والبحر، تعلم كيف تصير البساطة قوة. حضر في افراح الناس ومناسباتهم الاجتماعية والوطنية، لا ليؤدي فقرة عابرة، بل ليؤدي وظيفة اجتماعية كاملة، أن يكون للألفة موسيقى، وللمصالحة إيقاع، وللذاكرة سجل يخلد بالعود قبل أن يكتب بالمداد. كان ونيس السهارى، وحادي القفار والأسفار، وصوت المراهقة الأولى حين تحتاج إلى لحن يهذبها.

غنى بالعربية اليمنية وباللغة المهرية؛ وهذا وحده كاف لندرك معنى الحراسة الثقافية. إذ ليست المهرية مادة للحنين فحسب، بل كيانا وهوية حية. لذلك بدت تجربته فعل (حفظ بالأذن) فالأغنية هنا ليست رفاهية، بل إرشيفاً حياً ينقل المفردات والأساليب والنبرات من جيل إلى جيل بلا ضجيج نظري. ومع كل تسجيل يقل توتر سؤال الهوية، لأن الصوت يسبق الجدل.

لم يكن مشعجل أسير دور واحد. قدّم ألحانا وأداءً لأغنيات، وتعاون مع شعراء وفنانين من بيئته، فخرجت أعماله مختومة بطابع المكان لا بتكلف السوق. وفي أعماله الأخيرة - ومنها «فيها جمال المهرة» - أعاد تذكيرنا بأن تعريف اليمن لا يستعار من نشرات الأخبار؛ اليمن يعرّف نفسه حين يغني، تنوعا وثراء وصبرا واعتزازا.

برحيل محمد مشعجل، لم نفقد صوتا جميلا فحسب، بل فقدنا واحدا من حراس الهوية اليمنية. كان يعيد تعريف اليمن من هامشه الابهى - المهرة بلسانها المهري وإيقاعها الخاص - لتصير الخصوصية جسرا الى المشترك لا سورا حوله.

سلامٌ عليك يا مشعجل؛ ستبقى في ذاكرتنا الغنائية، في مرتبة استثنائية، حيث تتعانق العربية والمهرية بلا حرج، وحيث يصان إرث المهرة على الأوتار قبل أن يصان في الإرشيف. ومن بعدك علينا واجب لا يؤجل، أن نجمع أعمالك المهرية ونشرح مفرداتها، وأن نمد الضوء لأصوات جديدة تكمل السلالة نفسها. فالأصوات النادرة لا تدفن؛ تتحول إلى نبض مألوف في القلب، وإلى رصيد حي للهوية - هوية لا تكتمل إلا إذا سمعت لهجاتها ولغتها الخاصة، وظلت المهرة تغني داخل الخريطة لا عند حافتها.


اقراء ايضاً