الثلاثاء 2025/12/30 الساعة 02:52 PM

النهاية المفتوحة في اليمن: بين معادلة الدولة ومعادلة التفكيك

الإثنين, 29 ديسمبر, 2025


"واقع أن السعودية لوّحت بخيارات قاسية، بينها احتمال ضربات جوية ضد مواقع الانتقالي، يعني أن المسألة تجاوزت تبادل التصريحات"- جيتي
"واقع أن السعودية لوّحت بخيارات قاسية، بينها احتمال ضربات جوية ضد مواقع الانتقالي، يعني أن المسألة تجاوزت تبادل التصريحات"- جيتي

حين يخرج صوت قريب من دوائر القرار في أبو ظبي، مثل عبد الخالق عبد الله، ليقول لرئيس مجلس القيادة الدكتور رشاد العليمي -وهو في الرياض-إن مجلس القيادة "لم يعد له وجود فعلي على الأرض"، وليُلمّح إلى أن الخروج "بكرامة" قد يكون الحل، ثم يضيف العبارة الأكثر كشفا: "اتركوا المحافظات الجنوبية لتقرير مصيرها"، فنحن أمام إعادة تعريف للعلاقة داخل معسكر واحد يفترض أنه تحالف، وأمام محاولة لتجريد "الشرعية" من آخر وظيفة لها: أن تكون عنوانا شكليا للسيادة اليمنية في المناطق الخارجة عن سيطرة صنعاء.

وهذا ما تفيده الوقائع حين تتزامن الرسالة السياسية العلنية مع توسع عسكري انفصالي واسع، ومع توتر سعودي معلن ومبطّن، ومع تدخل أمريكي هدفه منع انفجار بين حليفين.

المفارقة التي ينبغي الإمساك بها من البداية هي أن الإمارات لا تهاجم العليمي لأنها تريد إصلاح "الشرعية"، ولا لأنها اكتشفت فجأة عجز مجلس القيادة. الجميع يعرف ذلك العجز، وهو ليس وليد الأسبوع الأخير، ما تغيّر هو أن هناك وقائع جديدة على الأرض تجعل وجود العليمي، ولو كعنوان إداري، عبئا على مشروع جرى بناؤه منذ سنوات مشروع تحويل الجنوب -وخاصة مناطقه الساحلية والنفطية- إلى مجال نفوذ قابل للفصل عمليا عن الدولة اليمنية، حتى لو بقي الاسم اليمني موحّدا في خطابات الأمم المتحدة.

في لحظة كهذه، تصبح الشرعية المطلوبة هي شرعية "الواقع"، لا شرعية الاعتراف الدولي؛ وتصبح الحكومة أداة للتوقيع عند الحاجة، لا إطارا سياديا يُحتكم إليه.

توسع مليشيا الانتقالي المدعوم إماراتيا في الشرق يخلق مشكلة من نوع آخر، مشكلة منافس داخل "المعسكر" ذاته، يسيطر على منافذ بحرية وثروات نفطية وممرات حدودية، ويملك خطابا انفصاليا يُربك كل تسوية سياسية مستقبلية، ويُضعف موقع السعودية التفاوضي، ويحوّل مناطق كانت تُدار ضمن نفوذها إلى فضاء إماراتي
ما قاله عبد الخالق عبد الله ليس إلا صياغة صريحة لهذا المنطق، بقدر من الوقاحة السياسية التي تُصبح ممكنة حين تشعر الدولة الراعية أن موازين القوة تسمح لها بالتجاوز.

وفي السياسة، لا توجد دعوة "للخروج بكرامة" بريئة، هي دائما تعبير عن علاقة قوة تُعلن أن الآخر فائضٌ عن الحاجة، لكن قيمتها الفعلية تقاس بما يليها: ماذا يتغير في الخرائط؟ ماذا يحدث في الموارد؟ ماذا يجري في المؤسسات الأمنية؟ هنا بالذات يصبح الربط ضروريا بين الخطاب العلني وما حصل في حضرموت والمهرة خلال كانون الأول/ ديسمبر 2025.

وفق تحليل "معهد واشنطن" المنشور بتاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 2025، بدأت العملية في 3 كانون الأول/ ديسمبر حين سيطرت مليشيا الانتقالي على منشآت عسكرية ومبانٍ حكومية ومرافق نفطية في مناطق من حضرموت كانت تحت نفوذ قوى قبلية وعسكرية محسوبة على السعودية، ثم توسعت خلال أيام لتشمل معظم حضرموت، وانتقلت إلى المهرة ورفعت أعلامها الانفصالية على الحدود مع عُمان.

الذي يُسمّى "تقرير المصير" في خطاب كهذا لا يُفهم على أنه حق ديمقراطي لجماعات محلية متعددة، بل يُراد له أن يُترجم إلى احتكار سياسي-عسكري من طرف واحد. والجنوب ليس كتلة اجتماعية واحدة، ولا حضرموت مثل عدن، ولا المهرة مثل شبوة. ومع ذلك تُقدّم العبارة كأنها تفويض عام لتسليم الجنوب كله إلى مشروع سياسي واحد، تهيمن عليه بنية مليشياوية-مؤسسية مرتبطة بدولة راعية هي الإمارات. وهذا هو جوهر المسألة؛ تحويل مفهوم سياسي-حقوقي (تقرير المصير) إلى مظلة لتصفية التعدد الاجتماعي والسياسي لصالح طرف مسلح قادر على فرض نفسه، ثم تسويق ذلك للعواصم الغربية باعتباره "استقرارا" و"إدارة فعالة" و"مكافحة للإرهاب". هذا الخطاب نفسه حاضر في تغطيات دولية متعددة عن كيفية تبرير المجلس الانتقالي لتوسعه، بما في ذلك ربطه بعمليات "مكافحة القاعدة" و"التهريب" وغيرها.

على المستوى السعودي، لا يمكن قراءة ردود الفعل بوصفها "غِيرة" على الشرعية أو تعلقا بمشروع دولة يمنية موحّدة؛ السعودية دخلت الحرب وهي تحمل أهدافا متناقضة تريد يمنا غير معادٍ لها، وتريد حدودا آمنة، وتريد نفوذا يضمن عدم قيام سلطة مستقلة قد تُهددها، وفي الوقت ذاته وجدت نفسها أمام كلفة حرب ممتدة.. وعندما بدأ مسار التهدئة مع صنعاء يتقدم، صار من مصلحة الرياض تقليص جبهات الاستنزاف.

لكن توسع مليشيا الانتقالي المدعوم إماراتيا في الشرق يخلق مشكلة من نوع آخر، مشكلة منافس داخل "المعسكر" ذاته، يسيطر على منافذ بحرية وثروات نفطية وممرات حدودية، ويملك خطابا انفصاليا يُربك كل تسوية سياسية مستقبلية، ويُضعف موقع السعودية التفاوضي، ويحوّل مناطق كانت تُدار ضمن نفوذها إلى فضاء إماراتي. لذلك تصبح التحذيرات السعودية -حتى لو جاءت عبر أصوات إعلامية- مؤشرا على توتر حقيقي.

وواقع أن السعودية لوّحت بخيارات قاسية، بينها احتمال ضربات جوية ضد مواقع الانتقالي، كما ورد في تقارير غربية، يعني أن المسألة تجاوزت تبادل التصريحات.

تقرير الغارديان في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2025 تحدث عن تجمع ما يصل إلى 20 ألف عنصر من قوات مدعومة سعوديا قرب الحدود، وعن ضغط على مليشيا المجلس الانتقالي للانسحاب من مكاسبه الإقليمية، وعن تحذيرات بإمكانية توجيه ضربات جوية سعودية لردعه، في سياق مخاوف من صدام مباشر بين قوات مرتبطة بالرياض وأخرى مرتبطة بأبوظبي.. وفي اليوم السابق، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى "أقصى درجات ضبط النفس" بعد تصعيد مليشيا الانتقالي وإعلانه السيطرة على حضرموت والمهرة وادعائه سلطة على كامل جنوب اليمن السابق، محذرا ضمنا من عودة الحرب واسعة النطاق.. هذان المعطيان -حشد سعودي وتحذير أممي- يُظهران أن ما يجري ليس تفصيلا محليا، بل أزمة توازنات إقليمية فوق أرض رخوة.

إذا وضعنا هذه الوقائع بجانب ما نشرته رويترز في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2025 عن وصول وفد عسكري سعودي-إماراتي مشترك إلى عدن لإجراء محادثات تهدئة بعد سيطرة مليشيا الانتقالي على مناطق واسعة، وفوق ذلك الإشارة إلى سقوط قتلى وجرحى في اشتباكات بحضرموت، فإن صورة التوتر تصبح أكثر تماسكا: هناك محاولة لاحتواء الشرخ داخل التحالف، لأن كلفة انفلاته كبيرة على الجميع، ولأن واشنطن لا تريد أن ترى حليفين يتصارعان في ساحة تتصل مباشرة بالملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وبمشهد إقليمي شديد الاحتقان.

لكن ما الدلالة الأعمق لهذه الأزمة؟ الدلالة الأولى هي أن الحرب على اليمن، منذ بدايتها، لم تُنتج دولة موالية أو نظاما مستقرا في المناطق الخارجة عن سيطرة صنعاء، بل أنتجت "سوقا سياسية-عسكرية" تتنافس فيها القوى المحلية تحت رعاية إقليمية.

والشرعية هنا أصبحت رخصة استخدام دولية تمنحها العواصم الكبرى لمن تختاره الدول الراعية، وعندما تصبح هذه الرخصة غير ضرورية، أو عندما تتعارض مع مشروع الراعي، يُطلب من صاحبها أن "يغادر بكرامة". هذه ليست قسوة شخصية؛ إنها طبيعة المنظومة التي استُبدلت فيها الدولة بشبكات وكلاء.

الدلالة الثانية هي أن الانفصال -بوصفه خطابا سياسيا- لم يعد مجرد مطلب يُرفع في البيانات، وإنما صار يتحول إلى بنية سيطرة على الموارد. وحضرموت هي قلب هذه المعادلة؛ لأن قيام كيان انفصالي دون موارد نفطية كبيرة أو منافذ بحرية مؤثرة سيظل هشا، تابعا ماليا، وغير قادر على بناء مؤسسات مستدامة. لذلك يصبح التوسع في حضرموت والمهرة -كما أشار معهد واشنطن- ليس مجرد توسع نفوذ، بقدر ما هو محاولة لتأمين شروط "قابلية الدولة" الاقتصادية.

ومن هنا تأتي حساسية الرياض؛ فحضرموت ليست فقط محافظة يمنية بعيدة، فهي مورد نفطي ومسار محتمل لخطوط الإمداد، ومنطقة تماس جيوسياسي مع عُمان، وعقدة في توازن البحر العربي.

الدلالة الثالثة، والأهم، تتعلق بفكرة السيادة ذاتها وهي ليست شعارا يُرفع في الأمم المتحدة، فقط وإنما هي قدرة على احتكار العنف الشرعي وإدارة الموارد وفرض القانون. وما يحدث في الجنوب والشرق هو نزع تدريجي لهذه العناصر من يد أي مركز يمني، وإعادة توزيعها بين وكلاء محليين يرتبطون بمرجعيات خارجية.

وعندما يتم ذلك تحت لافتة "التحالف" و"مكافحة الإرهاب" و"الاستقرار"، يصبح من الصعب على المجتمع الدولي أن يعترف صراحة بأنه يدير عملية تفكيك دولة. لذلك تُستعمل اللغة الملطفة: تقرير مصير، مؤسسات جنوبية، أمن محلي، مكافحة تهريب، لكن المضمون هو إعادة صياغة الكيان السياسي اليمني على صورة مناطق نفوذ.

الولايات المتحدة لا تتعامل مع اليمن كقضية وطنية لشعب يريد دولة، وانما كملف أمن إقليمي: ممرات بحرية، وتهديدات عابرة للحدود، وتوازن حلفاء في الخليج، وصراع نفوذ مع أطراف أخرى. لذلك يقلقها أن يتقاتل حليفان (السعودية والإمارات) على أرض اليمن
قد يُقال: لكن المجلس الانتقالي جزء من الحكومة المعترف بها دوليا، وهو ليس انقلابا خارج إطار الشرعية. وهذا صحيح شكليا، لكنه يصبح جزءا من المشكلة؛ لأن إدخاله في الحكومة لم يكن بهدف دمجه ضمن دولة، بل بهدف إدارة الصراع داخل المعسكر المعادي لصنعاء وتوزيع الأدوار. وعندما صار المجلس الانتقالي أقوى ميدانيا، بدأ يتحول من شريك داخل الحكومة إلى بديل عنها في مناطق معينة. وهذا ما يظهر في تغطيات دولية تشير إلى رفض الانتقالي الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها رغم مطالب الحكومة والسعودية، وإلى تحركاته لتمديد نفوذه إلى أبين، وإلى خطاب قياداته حول بناء مؤسسات لـ"دولة جنوبية" قادمة.

في هذا السياق، يصبح موقف واشنطن مفهوما ضمن مصالحها؛ الولايات المتحدة لا تتعامل مع اليمن كقضية وطنية لشعب يريد دولة، وانما كملف أمن إقليمي: ممرات بحرية، وتهديدات عابرة للحدود، وتوازن حلفاء في الخليج، وصراع نفوذ مع أطراف أخرى. لذلك يقلقها أن يتقاتل حليفان (السعودية والإمارات) على أرض اليمن، لأن ذلك يخلق فراغات أمنية ويعيد إنتاج الفوضى التي تُغذي التنظيمات المتطرفة ويعقّد أي مسار تهدئة مع صنعاء، وقد ينعكس على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.

تحذيرات الأمم المتحدة، وتغطيات رويترز وأسوشيتد برس وفايننشال تايمز تُظهر أن المخاوف ليست نظرية: هناك حديث عن اشتباكات، عن صدامات محتملة، عن تداعيات على جهود التهدئة، وعن تصاعد التوتر السعودي-الإماراتي. لكن القراءة التي تكتفي بوصفها "مواجهة سعودية-إماراتية" تخفي ما هو أخطر: وهي أن اليمنيين أنفسهم يُجرّون مرة أخرى إلى صراع بين رعاة، بينما قضاياهم الأساسية -الدولة، الاقتصاد، الخدمات، الأمن الاجتماعي- تتحول إلى تفاصيل.

عندما يقال لحضرموت: أنتِ ركيزة محتملة لدولة جنوبية، فمعنى ذلك أن نفطك ليس ملكا لمواطنيك ضمن عقد اجتماعي متساوٍ، بل هو مورد يُعاد توزيعه وفق توازنات السلاح والتحالفات الخارجية. وعندما تُرفع الأعلام على الحدود العُمانية، فهذه ليست فقط رسالة لعُمان أو للسعودية، بل رسالة للمجتمع المحلي: السلطة الجديدة تفرض رمزها، والرمز يتقدم على أي تفاوض اجتماعي أو سياسي داخلي.

هنا تظهر نقطة غالبا ما تُهمل: حضرموت ليست "غنيمة" سهلة؛ هناك هوية حضرمية سياسية واجتماعية، وهناك مطالب حكم ذاتي محلية لا تتطابق بالضرورة مع مشروع الانتقالي.

معهد واشنطن نفسه أشار إلى مخاوف حضرمية من تكرار سياسات قمعية شهدتها المحافظة سابقا، وإلى أن حضرموت ليست معقلا تقليديا للانتقالي. معنى ذلك أن فرض الانتقالي كسلطة في حضرموت قد يُنتج مقاومة محلية، وأن الصراع قد يتحول من صراع "جنوب ضد شمال" إلى صراعات داخل الجنوب نفسه. وهذه نقطة بالغة الأهمية: مشاريع التفكيك لا تُنتج كيانات مستقرة عادة، بل تُنتج تفكيكا متسلسلا، لأن كل منطقة ستطالب بحصتها وبتمثيلها وبمواردها.

ثم ماذا عن المهرة؟ المهرة تاريخيا ذات خصوصية اجتماعية، وقريبة من عُمان، وحساسة تجاه التوازنات القبلية والحدودية، وإدخالها قسرا ضمن خرائط نفوذ جديدة يفتح الباب أمام تدخلات متقاطعة، وقد أشار معهد واشنطن إلى احتمال أن يجرّ الصراع تدخلا عُمانيا؛ ليس لأن عُمان تريد حربا، ولكن لأن أي تغيير جذري على حدودها الشرقية مع اليمن يعيد تعريف أمنها. وهذه بدورها تُظهر أن عملية إعادة رسم الخرائط ليست شأنا "جنوبيا داخليا"، بل شأنٌ إقليمي يتجاوز اليمن.

في مواجهة هذا كله، تظهر "الشرعية" كظلّ دولة. دعوة العليمي للمغادرة ليست مجرد إهانة لشخص، بل إعلان عن انهيار نموذج الحكم الذي تأسس بعد 2015: نموذج قائم على تعدد مراكز القوة، وعلى التعايش المؤقت بين مليشيات متعددة تحت سقف رعاية إقليمية.

غير أن تحميل العليمي وحده مسؤولية الانهيار هو تبسيط مريح؛ السبب البنيوي هو أن التحالف نفسه لم يكن مشروع دولة، بقدر ما هو مشروع حرب وتوازن نفوذ.

فعندما تتحول الحرب إلى إدارة نفوذ، تُصبح المؤسسات الدستورية مجرد واجهة لإدارة "تعدد السلطات". وقد رأينا في تجارب عربية أخرى أن إضعاف الدولة المركزية لا يخلق تلقائيا ديمقراطية محلية أو حكما ذاتيا عادلا، بل يخلق تنازعا على الموارد وعلى من يملك السلاح، ثم تُفتح الأبواب لتدخلات خارجية أوسع. اليمن، بطبيعته الاجتماعية المركبة وبعمق أزمته الاقتصادية والإنسانية، أكثر قابلية لهذا الانزلاق.

قد يُقال أيضا: إن السعودية والإمارات كانتا حليفتين، والخلافات بين الحلفاء أمر طبيعي. لكن هذه العبارة تُخفي أن ما يُدار في اليمن ليس تحالفا ندّيا بين دولتين على أرض دولة ثالثة، بل إدارة مباشرة لمجال سيادي يمني عبر وكلاء. لذلك لا يظهر الخلاف كاختلاف في وجهات النظر، بل كتصادم مشاريع نفوذ: السعودية تريد يمنا يمكن التحكم به عبر منظومة سياسية ضعيفة لكنها موالية، والإمارات تريد جنوبا وساحلا وموانئ ضمن شبكة نفوذها البحرية والاقتصادية، وتريد شريكا انفصاليا يضمن هذا النفوذ ويقدّم نفسه للغرب كقوة "مكافحة للتطرف".

المهم هنا ليس النوايا المعلنة، بل النتائج المتوقعة.. التقارير الدولية تتحدث عن احتمال مواجهات في وادي حضرموت إذا فشل احتواء التوتر، وعن أن أي قتال كهذا قد يفيد صنعاء لأنها ستراقب خصومها يتنازعون. وبهذا المعنى، يصبح المشروع الإماراتي قصير النظر حتى من زاوية مناهضة صنعاء: لأن تحويل الجنوب إلى ساحة صراع مع السعودية يُضعف جبهة خصوم صنعاء ويقوّي موقعها التفاوضي. وهذا ما يفسر قلق واشنطن: لأنها لا تريد تعزيز موقع صنعاء، ولا تريد عودة الحرب، ولا تريد انفلات البحر الأحمر.

في المقابل، لا ينبغي أيضا تسويق السعودية بوصفها "حامي الوحدة"؛ الرياض استخدمت شعار الوحدة حين كان يخدمها، واستثمرت في انقسامات محلية حين كان ذلك يخدمها كذلك. لكن الفارق أن الإمارات، في هذه اللحظة، تُعلن من دون مواربة أنها تريد تحويل الانقسام إلى نتيجة نهائية، وأنها لا ترى داعيا للمواربة السياسية ما دام ميزان القوى يسمح. وفي هذا الفارق، تكمن خطورة اللحظة: انتقال خطاب التفكيك من التلميح إلى التصريح، ومن إدارة الخلف إلى ممارسة العلن.

وإذا أردنا فهم لماذا جاءت الرسالة الإماراتية إلى العليمي الآن، فعلينا أن نضعها ضمن لحظة "التمكين الميداني". حين تسيطر مليشيات حليفة للإمارات على مناطق نفطية في حضرموت وتتمدد إلى المهرة، وعندما ترفض الانسحاب رغم مطالبات الحكومة والسعودية، وعندما تُسجّل التقارير الدولية أن السعودية تلوّح بإجراءات عسكرية، يصبح من الضروري لأبو ظبي أن تحسم مسألة "الغطاء السياسي".

العليمي يمكن أن يكون ورقة تستخدمها الرياض لرفع الكلفة السياسية للتوسع الانتقالي، يمكنه أن يعلن رفضا ويطالب المجتمع الدولي بالتدخل، لذلك يجري تحييده معنويا وسياسيا: يُصوّر كرئيس بلا قاعدة، ومجلسه كمجلس بلا وجود. وعندما تتكرر هذه الرسالة في أكثر من منصة، تتشكل أرضية لتسويغ خطوة أكبر: إما إعادة ترتيب مجلس القيادة وفق شروط جديدة، أو دفعه إلى مزيد من الانكفاء حتى يغدو فعليا عنوانا بلا أثر.

وهنا تظهر وظيفة ما يُسمّى "الشرعية" في الحروب الأهلية المدوّلة: هي ليست الدولة، بل شكل للدولة، تُستعمل للتمويل، ولإدارة الموارد عبر البنك المركزي أو عبر وزارات شكلية، ولتوقيع اتفاقات، ولتوفير غطاء دولي.

تقرير فايننشال تايمز في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2025 وصف تصاعد التوتر السعودي-الإماراتي بسبب هجوم الانتقالي المدعوم إماراتيا وسيطرته على محافظات بينها حضرموت، بما شكّل تحديا لتوازن القوى داخل الحكومة المعترف بها دوليا، وأشار إلى أن ذلك يهدد جهود السلام ويعكس تنافسا أوسع بين الرياض وأبو ظبي. عندما تصدر هذه القراءة من صحيفة اقتصادية-سياسية غربية مؤثرة، فهذا يعني أن الأمر لم يعد شأنا يمنيا داخليا، بل بات يُقرأ كصراع نفوذ بين دولتين. لكن الخطر، مرة أخرى، هو أن هذا الإطار يُهمّش الإرادة اليمنية: يُختزل اليمن إلى ساحة، لا إلى دولة وشعب. وهذه هي النتيجة المنطقية لمسار بدأ منذ 2015: عندما تُسلَّم السيادة لغير الدولة، يصبح من الطبيعي أن تتفاوض القوى الخارجية على مصير البلد وفق مصالحها.

ولنكن واضحين: أن المشروع الإماراتي، كما يظهر في الوقائع، يقوم على هندسة سياسية تُنتج كيانا تابعا، وتُحوّل الجنوب إلى وظيفة ضمن شبكة نفوذ إقليمية. لذلك ومن هنا فإن مناهضة الإمارات يجب أن يُقرأ ضمن هدف أوضح: استعادة معنى السيادة اليمنية بوصفها حقا لمواطني اليمن، لا كامتياز تمنحه عواصم الخليج لقيادات محلية.

نحن أمام منعطف خطير لأن موازين السيطرة على الأرض تُعاد صياغتها، ومعها تُعاد صياغة معنى "الشرعية" وحدود الدولة ووظيفة التحالف نفسه
يُقال كثيرا إن "اليمن لن يتوحد" وأن الانقسام قدر تاريخي؛ هذه مقولة كسولة تبرر تفكيك الدول.. اليمن توحد سياسيا عام 1990، وفشل في بناء عقد اجتماعي عادل، ثم انفجر الصراع. لكن الفشل في بناء الدولة لا يعني أن تفكيكها هو الحل، تفكيك الدولة في مجتمعات منقسمة عادة ما ينتج حروب حدود وموارد ومواطنة، ويُحوّل الأقليات داخل الكيانات الجديدة إلى مشكلة.

فإذا قامت دولة جنوبية على نفط حضرموت مثلا، فما مصير القوى المحلية التي لا ترى نفسها جزءا من مشروع الانتقالي؟ وإذا أصبحت المهرة ضمن نفوذ انتقالي، ما أثر ذلك على علاقتها بعُمان؟ وإذا أُعيد تقسيم اليمن، ما الذي سيمنع انقسامات إضافية داخل الكيانين؟ التاريخ القريب في المنطقة لا يطمئن إلى أن التفكيك يُنتج استقرارا.

من منظور بارد، ما يفعله مشروع النفوذ الإماراتي هو أنه يُحوّل الصراع اليمني من صراع على السلطة في دولة واحدة إلى صراع على حدود كيانات متعددة، أي أنه يرفع درجة التعقيد ويطيل أمد العنف المحتمل.

وليس صدفة أن الأمم المتحدة حذرت من تداعيات إقليمية بعد تقدم الانتقالي، ودعت إلى ضبط النفس؛ لأن أي اشتعال جديد لن يبقى في حضرموت، بل سيؤثر على خطوط التجارة البحرية وعلى أمن الخليج وعلى القرن الأفريقي.

وإذا كان هناك ما يلخص اللحظة، فهو أن "الشرعية" تُسحب منها وظيفتها شيئا فشيئا، وأن الإمارات تتصرف كما لو أن الحسم بات قريبا، فيما السعودية تحاول منع خسارة نفوذها أو تأجيلها، وواشنطن تحاول منع انفلات الحريق. وكل ذلك يجري على أرضٍ يفترض أنها أرض دولة اسمها اليمن، لكنها تُدار عمليا كمساحة تنازع نفوذ.

بالمجمل، نحن أمام منعطف خطير لأن موازين السيطرة على الأرض تُعاد صياغتها، ومعها تُعاد صياغة معنى "الشرعية" وحدود الدولة ووظيفة التحالف نفسه.

لكن الإجابة عن مصير اليمن -بمعناها السياسي الفعلي، لا البلاغي- لم تعد تُكتب في بيانات الفنادق ولا في ممرات العواصم، وإنما في ميزان القوة الذي يفرض نفسه على الداخل.. وجماعة أنصار الله، بحكم تماسك بنيتها السياسية-العسكرية مقارنة بتشظي خصومها، وبحكم قدرتها على استثمار تناقضات المعسكر الآخر، تمتلك هامشا أوسع لتحديد اتجاه اللحظة المقبلة، لأنها تملك القدرة على تحويل التصدعات الإقليمية إلى أوراق تفاوض أو إلى واقع جديد.

وحين تتغير خارطة التحالفات -وهذا احتمال واقعي في ضوء تنازع الرياض وأبو ظبي- سيتبدل تعريف الممكن والمستحيل: قد تُعاد صياغة مسارات التهدئة، وقد تتقدم تسويات على حساب أخرى، وقد يكتشف كثيرون أن ما ظنوه ثابتا لم يكن سوى ترتيب مؤقت. بهذه المعادلة بالذات، يصبح السؤال الحقيقي ليس من يربح جولة إعلامية، وإنما من يملك القدرة على فرض معادلة دولة أو تكريس معادلة تفكيك.

المزيد من أنيس منصور