30 نوفمبر.. بين الغاية والوسيلة
كغيره من الشعوب الحرة أدرك الشعب اليمني منذ فترة مبكرة أنه من المحال عليه وهو تحت نير الاحتلال البريطاني أن يضع قدمه في طريق الدولة الحديثة، فبريطانيا التي وضعت يدها على المناطق اليمنية الجنوبية لم تكن غير عاهة مزمنة كلما طال أمد بقائها زادت الآلام والمواجع، وبالتالي فلكي يتعافى الجسد اليمني ويصبح أهلا للبناء والتقدم فإنه لا مفر من استئصال هذه العاهة بعد أن جثمت زهاء قرن ونصف القرن عليه، ومن هذه المسلّمة انطلق اليمنيون في كفاحهم الطويل لا من أجل إخراج هذا الغازي من ديارهم وأراضيهم فحسب، وإنما من أجل بناء دولة حديثة تعيد لليمن التي حباها الله موقعا متميزا وخيرات كثيرة دورها المتميز بين سائر الدول والشعوب.
وبانطلاق شرارة ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 انخرط اليمنيون في هذه الثوة بمختلف فئاتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية، فكونوا صفا واحدا يستحيل كسره أو التحايل عليه، فإلى جانب الكفاح المسلح الذي أشعله الثوار في مختلف الجبهات والمواقع كان هناك نضال آخر تخوضه منظمات المجتمع المدني ممثلة بالنقابات والهيئات العمالية التي نفذت العديد من الأضرابات والاعتصامات، فعطلت بذلك حركة الحياة مما جعل بريطانيا تواجه سخطا شعبيا يتزايد يوم عن يوم، لينتقل إلى مرحلة العصيان المدني، فالمواجهة الثورية، وهنا رأت بريطانيا أن عليها أن تحمل عصاها وترحل صاغرة منكوسة، خاصة وأن المناخ الإقليمي الذي أفرزته ثورة مصر ثم ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وغيرها من الثورات العربية بدأ باستعادة الذات العربية روحا وجسدا، كما أدركت أن فرصة خروجها بأقل الخسائر ما تزال مواتية اليوم، لكنها قد تصبح غير مواتية في الغد، ومن هنا فقد أملى عليها فكرها الاستعماري اللجوء إلى مفاوضات الاستقلال لتحقيق غايات ثلاث: خروجها بخسائر قليلة، وشق العصا بين المكونات الثورية، وتحويل الاستقلال من وسيلة تفضي إلى بناء دولة إلى غاية تدخل المسيرة الثورية بعد تحقيقها في بيات شتوي مفتوح.
ولقد تحقق لبريطانيا كل ما أرادت، فخرجت بأقل الخسائر، واشتعل الصراع المسلح بين رفقاء الثورة بالأمس وعلى وجه الخصوص بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، وأصبحت التصفيات بينهما بالهوية ليصبح هذا الصراع جرحا غائرا في الوعي الشعبي عاد بعد ذلك بأشكال أخرى كالصراع الأيدلوجي والمناطقي بدءا بنفي قيادات ثورية كبرى إلى خارج البلاد، ومرورا بمقتل فيصل عبداللطيف الشعبي واعتقال الرئيس قحطان الشعبي ثم مقتل الرئيس سالمين وصولا إلى أحداث يناير 1986 التي خلفت زهاء عشرين ألف قتيل معظمهم من المدنيين.
وبدوران عجلة الصراع المحتدم نسي اليمنيون هدف بناء الدولة الحديثة، وتحولت الأعياد الوطنية المختلفة إلى مناسبات باردة لتبادل التهاني والتبريكات وإقامة الحفلات والمهرجانات.
ويأتي اليوم العيد الثالث والخمسين للاستقلال وما تزال الدولة اليمنية غائبة، والأدهى والأمرّ من ذلك أنْ تأتي هذه المناسبة العظيمة وثمة من يريد لبلده أن تدخل نفقا استعماريا آخر يمتص خيراتها الوفيرة التي حرم منها الشعب الأبي الصابر الذي بذل الغالي والرخيص في سبيل حريته، والذي استخدمته الزعامات المتعاقبة وقودا لصراعاتها المزمنة ليصبح حال البلاد والعباد كما رسمه الشاعر المبصر عبدالله البردوني حين قال:
بلادي من يدَي طاغٍ إلى أطْغى إلى أجْفى
ومن سجٍنٍ إلى سجن ومن مَنفىٍ إلى منفى
ومن مُستعمرٍ بادٍ إلى مستعمرٍ أخْفى
وحتّى في أراضيها تقاسي غربةَ المنفى. . نوفمبر.. بين الغاية والوسيلة .