أبو عثمان الجاحظ.. رائد النثر وإمام الفصاحة الذي قتلته كتبه
أتت امرأة إلى الجاحظ وهو على باب داره فقالت: إن لي إليك حاجة وأريد أن تمشي معي، فقام معها إلى أن أتت به إلى صائغ يهودي، فقالت له: مثل هذا، وانصرفت. فسأل الجاحظُ الصائغَ عن قولها فقال: إنها أتت إلي بفصّ، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان، فقلت: يا ستّي ما رأيت الشيطان! فأتت بك، وقالت ما سمعت.
حدقيٌ عند باب الخليفة.. عشرة آلاف درهم مجانا
في البصرة حاضرة العراق ومهد النحو والأدب وُلِد أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي المعروف بالجاحظ، العالم المشهور، وقد اختُلف في تاريخ ولادته، فقيل ولد عام 150 وقيل 159 أو 160 هـ.
يُعرّفه ابن خلِّكان في "وفيات الأعيان" بأنه صاحب التصانيف في كل فن، وله مقالة في الدين، وإليه تُنتسب الفرقة المعروفة بالجاحظية من المعتزلة، وكان تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن سيار البلخي المعروف بالنظّام المتكلم المشهور. وكان مع فضائله مشوَّه الخلق، وإنما قيل له الجاحظ لأن عينيه كانتا جاحظتين.
ويورد حادثة تدل على أنه كان دميم الوجه قبيح المنظر، صورته لا تسر الناظر، ومفاد الحادثة أن صاحب الفنون المتعددة ذاته حكى عن نفسه فقال: ذُكرتُ للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني.
يستعاد الحدقي (سمي بذلك أيضا لاتساع حدقتيه) عند الحديث عن النثر العربي وبداياته، فهو من بذر البذور الأولى له بكتاباته وتصانيفه ورسائله، فغدا عالما فذّا في البيان، إماما يُقتدى به في البلاغة، نثّارا فريدا في تاريخ الأدب العربي.
مائدة السمك واللبن.. تصالح الأضداد
عمّر الجاحظ طويلا حتى تُوفي وقد جاوز التسعين عاما، لكنه في أواخر عمره أصيب بالفالج، فكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قُرض بالمقاريض ما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي.
وكان ينشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ
كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ
دريسٌ كالجديد من الثياب[1]
ويذكر صاحب سرح العيون (ابن نباتة) سبب إصابته بالفالج قائلا: كان سبب علّة الجاحظ أنه حضر مائدة ابن أبي دؤاد، وفي الطعام سمك ولبن، وكان ابن بختيشوع الطبيب حاضرا فنهاه عن الجمع بينهما، فقال الجاحظ: إن السمك إن كان مضادا للّبن فإني إذا أكلتهما دفع ضرر كل منهما ضرر الآخر، وإن كانا متساويين فكأني أكلت شيئا واحدا! فقال ابن بختيشوع: أنا لا أحسن الكلام، ولكن إن شئت أن تجرب فكل، فأصابه فالج عظيم!
رأس الجاحظية.. ثاني اثنين إذ هما في التنور
في عصر كان يموج بالتغيرات ونشوء الفرق الجديدة كالمعتزلة وبروز علوم كعلم الكلام؛ نشأ عمرو بن بحر متأثرا بأفكار المعتزلة، فقربه الخليفة المأمون لأنه كان معتنقا آراءهم مُطلعا على الفلسفات القديمة متأملا كتبها.
مال في فلسفته إلى الطبيعيين من المعتزلة، حتى أسّس فرقة منها سُميت بالجاحظية، كما ساد على المتكلمين بفصاحته وحسن عبارته. ومما تفرد به القول بأن المعرفة طبائع، وهي مع ذلك معرفة العباد على الحقيقة. وكان يقول في سائر الأفعال: إنها إنما تنسب إلى العباد على أنها وقعت منهم طباعا، وإنها وجبت بإرادتهم، وليس بجائز أن يبلغ أحد ولا يعرف الله تعالى. والكفار عنده بين معاند، وبين عارف قد استغرقه حبه لمذهبه وعصبيته، فهو لا يشعر بما عنده من المعرفة بخلافه.
إثر وفاة المأمون وتراجع دور المعتزلة بُدئ بملاحقتهم وتحجيم سطوتهم، وكان ممن ألقي القبض عليه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات الذي كان الجاحظ مقربا منه، فعوقب برميه في التنور. لكنّ أبا عثمان الجاحظ تمكن من الهرب والنجاة من تلك الملاحقة، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد بذلك ما صنعوا بابن الزيات، من إدخاله تنورا فيه مسامير محمّاة، كان هو صنعه ليعذب الناس فيه فعُذب به حتى مات[2].
كتاب "الحيوان" للجاحظ، حيث صنّف إمام النثر أول كتاب في الأدب العربي يحكي عن الحيوان وصفاته
موسوعة "الحيوان".. كنز معرفي في الصفات والأجناس
صنّف إمام النثر أول كتاب في الأدب العربي يحكي عن الحيوان وصفاته، فمضى يراقب أفعاله ورداته على المنبهات، فما غادر كبيرة أو صغيرة عنه وعن أسمائه وأسماء ما يلد والتمييز بينهما، فقد فرّق بين كل ما يخرج من أي بيضة في الأرض ويسمى فرخا، إلا الدجاج فما يخرج من بيضته يسمى فروجا.
وميّز بين الأرنب الذكر فهو الخزز والأنثى فهي عِكرشة وولدهما الخرنق، ودل على أن الكروان ابن الحُبارى، وغيرها مما ورد فيه، فأمست كنزا لغويا استفاد منها مصنفو المعاجم.
كما وضع فصلا عن مذكر الحيوان ومؤنثه[3]، وشرح أساليبها في الصيد وأسلحتها للدفاع عن نفسها[4]، وسعيها لكسب طعامها وحيَلها لتنفيذ ذلك، فقد خرج إلى الصحراء يرقبها ويبين تصرفاتها وكيف تتعامل مع فرائسها.
وقد غاص الجاحظ في هذا المؤلف عميقا في بلاغة العرب عند حديثه عن الحيوان، عندما أرجع الديكة إلى فصيلة الدجاج إذا ذكرت في جملة الجنس، فالديك نفسه دجاجة إلا أنهم أرادوا إبانته بأنه ذكر فقالوا: ديك.
أما في ألوان الحيوانات وما توصف به فقد نقل عن بعض العلماء الذين قالوا: كلب أبقع، وفرس أبلق، وكبش أملح، وتيس أبرق، وثور أشيه. وصنف لئام الطيور ثلاثة هي الغربان والبوم والرخم، إضافة إلى غير ذلك من الفوائد والمعاني.
إحدى صفحات كتاب "الحيوان" الذي ألفه الجاحظ، وذكر فيه تفصيلات عن العرب وتاريخهم الخارجة عن عالم الحيوان
في دكاكين الورّاقين.. ليالي الجاحظ
غزا أبو عثمان في كتابه الموسوعي "الحيوان" مناطق أخرى من حياة العرب، فما اقتصر كتابه على الحيوانات وسلوكياتها فقط كذكره أن الحيّة إذا خافت من القتل أخرجت لسانها لتريهم العقوبة استعطافا واسترحاما، التي فرضها الله عليها جزاء لها، بل اندفع نحو العرب وتاريخهم يذكر لحظات وتفصيلات فيها خارجة عن عالم الحيوان، مثل ذكره أن عمر بن أبي ربيعة سُمّي بعمر بن الخطاب لأنه وُلد يوم وفاته.
كما حكى فيه عن تاريخ الشعر العربي، إذ يرى أنه حديث الميلاد صغير السن، فأول من نهج سبيله وسهّل الطريق إليه: امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة، محددا العمر بمئة وخمسين عاما، وعلى الأكثر بمئتي عام. وله رأي فريد في الشعر وترجمته، إذ يرى صعوبة ترجمة الشعر العربي[5]، لما فيه من ألفاظ صعبة وخشونة لا تتلاءم مع اللغة التي سيترجم إليها.
أما مهمة "الورّاقين" التحريرية في دكاكين بغداد وأسواقها فقد خبرها عن قرب لأنه كان يستكري تلك الدكاكين ليلا كي يقرأ ما ينسخون من كتب، لذلك قويت لغته وتمكّن منها وصارت تآليفه تذهب إلى الوراقين لينسخوها ويبيعوها، حتى ألفى أن إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام النقص الذي يكون المؤلف قد سها عنه.
ثنائية اللفظ والمعنى
قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني قائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم، والمختلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فكرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة[6].
أما الجاحظ فله رأي في هذه القضية ما تزال تنال اهتماما بالدراسة والنقد، فيقول في "البيان والتبيين": المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير[7].
هذه الثنائية التي تجمع بين اللفظ والمعنى انطلق فيها الجاحظ للمفاضلة بينهما على رأي يقوم على العقل نابع من أرضية فكرية وفلسفة عميقة مرتبطة بالفكر المعتزلي الذي ينتمي إليه.
من قوله ذاك يتضح أنه ينتصر للفظ على المعنى، فالمعاني غير محدودة، بل هي مطروحة في الطريق، لذا لا بد للناظم من أن يجد السبك الملائم واللفظ المناسب ليقيم به وزنه ويجوّد كلامه، مع الإدراك أنه لم يحقّر المعاني، بل هي متممة للفظ لاكتمال الصورة.
الموسوعة اللغوية والفكرية "البيان والتبيين" التي ألفها الجاحظ وتُعتبر من أمهات الكتب في التراث العربي
"البيان والتبيين".. فصاحة مبثوثة في التضاعيف
ألف الجاحظ موسوعته اللغوية والفكرية "البيان والتبيين" أواخر حياته. ولقد صار هذا المؤلف النفيس كتابا بليغا في أثر العرب، ووصف حياتهم وأرخ لهم في لغتهم وحوى كثيرا من آدابهم، فقد وضع فيه خبرته وما حصله من علوم ومعارف عبر سنين طوال ليصبح من أمهات الكتب في التراث العربي وعيونها.
يصف أبو هلال العسكري (ت 395 هـ) البيان والتبيين بأنه "كثير الفوائد، جم المنافع، لما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة. إلا أن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتثرة في أثنائه، فهي ضالّة بين الأمثلة، لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير"[8].
في هذا الكتاب، بحسب ما عنونه، يتحدث عن البيان والفصاحة، لكنه لم يقتصر عليهما بل انطلق يدعم آراءه وأفكاره بشواهد وقصص من حياة العرب وبعض أشعارهم، وعن حياة الموالي وكلامهم.
كما برع في مجال الصوتيات اللغوية حين تحدث عن مخارج الحروف، وأثر اللثغة فيها وأثر سقوط الأسنان، ككلامه عن الحروف التي تدخلها اللثغة: القاف، السين، اللام.
وشرح نطقهم للثغات الأحرف فبيّن أن لثغة الراء تكون بالغين والذال والياء، والغين أقلها قبحا. ولثغة اللام ياء. ولثغة السين ثاء. ولثغة القاف طاء. ولثغة اللام ياء وآخرون يجعلون اللام كافا. ولثغة الراء ياء أو غين أو غين معجمة أو ذال أو ظاء معجمة أو ياء معجمة.
علم الصوتيات واللسانيات.. تمييز الخبيث من الطيب
كما راح يشرّح اللسان وأحواله فيقال في لسانه حبسة إذا كان الكلام يثقل عليه، ولم يبلغ حد الفأفأة والتمتمة. ويقال في لسانه عقلة إذا تعقل عليه الكلام. ويقال في لسانه لكنة إذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب. ويقال في لسانه حكلة أي نقصان آلة المنطق.
وللصوت والحديث فيه جزء في مؤلفه لأنه آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف.
أما الإيماءات والحركات فلها دلالة بلاغية كدلالة الألفاظ ومقاصدها، إذ يعبر عن أن حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، مع الذي يكون مع الإشارة من الدل والشكل والتقتّل والتثنّي وغير ذلك من الأمور.
يتنقل الإمام اللغوي بين هذه الحروف يستنطق محاسنها، ويكشف عن مساوئها ويميز القبيح من الجيد، حتى أسس لعلم الصوتيات واللسانيات في الأدب العربي، وبنى عليه المحدثون دراساتهم وأبحاثهم.
وبيّن دقائق الكلام وسار على التمييز بين مفردات القبائل والمناطق واستخدامها حين تطرق إلى أن أهل الأمصار إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب، ولذلك تجد الاختلاف في ألفاظ من ألفاظ أهل الكوفة والبصرة والشام.
وقد لجأ في هذا الكتاب إلى تفسير مفردات كثيرة وتبيان مراميها الحقيقية مثل السُّدة: الباب، ما حول المسجد من الرواق. وكيفية استعمالها وتخصيص كل مفردة بأهلها، فالحنطة كوفية والقمح شامية، لكنه نحا إلى أن قول بُرّ أفضل منهما.
كما دلف إلى كلمات أخرى وأوضح أصلها ومصدرها وكيف وصلت إلى العربية ككلمة "الخيار" التي دخلت إلى العربية من الفارسية.
فصاحة السياق القرآني.. وضع اللفظ في موضعه
غاية "البيان والتبيين" إبراز فصاحة العرب وكشف مواطن بلاغتهم ومعناها، لذا سعى الجاحظ فيه إلى إيجاد معنى جامع للبلاغة العربية ولدى الأقوام الأخرى، حيث يذكر فيه: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الفصل من الوصل. وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام. وقيل للرومي: ما البلاغة؟ قال: حسن الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة. وقيل للهندي: ما البلاغة؟ قال: وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
قال إسحق بن حسان بن قوهي: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط. سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة.
كما يرد أسباب تغير الألفاظ ومعاني بعض المفردات إلى أن الناس قد تستخف ألفاظا يستعملونها وغيرها أحق بذلك، فيهجرونها ويستعملون الألفاظ الخفيفة التي تنزاح إلى معنى غيرها أولى به. فمثلا لم يذكر الله الجوع في القرآن إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس يذكرونها في حال القدرة والسلام، ولا يذكرون السغب.
وكذلك ذكر المطر؛ لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر الذي يكون للانتقام، وبين ذكر الغيث الذي يكون نجدة ورحمة[9].
ومن بديع ما يميز فيه أن العكازة إذا لم يكن في أسفلها زج (حديدة تركب في أسفل الرمح) فهي عصا. ويعدد الأمم التي فيها الأخلاق والآداب والحكم والعلم بأربع وهي: العرب والهند وفارس والروم.
لحن الجواري المستظرف.. موسوعية لغوية
بين شرق الأرض وغربها توسعت الدولة العربية توسعا شاسعا، فدخلها مَوالٍ كثر لا يتقنون العربية، لذا شاع اللحن في كلامهم ودخل عبرهم إلى اللسان العربي، حتى أقر أبو عثمان أن أول لحن سمع بالبادية: هذه عصاتي، وأول لحن سمع بالعراق: حيِّ على الفلاح.
وبما أن "إمام البيان" استنبط اللغة وراقب اللغات الأخرى واستقرأها، فقد لاحظ كثرة دوران السين على ألسنة الروم والعين على ألسنة الجرامقة، كما وجد أن ليس للروم في لغتهم ضاد ولا للفرس ثاء ولا للسريان ذال، مما يدل على تتبعه العميق ومقارنته بين اللغات.
رأى الجاحظ أن اللحن يستظرف، والنفس البشرية عندما تستظرف شيئا تنساق وراءه حتى لو لم يكن صحيحا، فحكى عن اللحن ومتى يُستملح عندما قال: يستظرف من الجارية أن تكون غير فصيحة، وأن يعتري منطقها اللحن. جاء ذلك في تفسيره بيت مالك بن أسماء بن خارجة حين وصف جارية:
منطقٌ رائعٌ وتلحَن أحيانًا
وخير الحديث ما كان لحنا
أما ابن دريد فيقول: ليس معنى اللحن ها هنا ما ذكره، إنما أراد أنها تتكلم بالشيء وهي تريد غيره من فطنتها وذكائها[10].
عين الملاحظة والتجريب.. منهج علمي حديث
في العصر الذهبي للدولة العباسية، عصر الرشيد وابنه المأمون، عاش الأديب الفذ معاصرا أبا عبيدة معمر بن المثنى وأبا الحسن علي بن محمد المدائني وهشاما بن محمد الكلبي، وكان ذلك العصر عصرا علميا بامتياز تتحرك فيه المؤلفات وتنشط صناعة البيان، والوراقون في دكاكينهم يُجزون أجزل العطاء لمهنتهم التي صارت ذات شأن ورفعة.
وكان مما ميز هذا العصر وفرة الإنتاج الفكري وتدوين التراث العربي بأسانيد مرفوعة إلى رجال وعلماء ثقات عاصروا الأحداث ورووها بموضوعية وتأن، فاعتمد الجاحظ عليها وعلى تحليل واستنباط عميقين لتقديم المعلومة، وتبيان الحقيقة من الوهم، وسار على الدقة والملاحظة والتجريب في منهج علمي يشبه المناهج الحديثة يقوم على التحليل واستنباط النتائج، فما روى شيئا بدون حجة أو حادثة تدل عليه وتوحي بتفاصيله.
وبما أن الشعوبية نشطت في عصره ودسّت أحاديث في غير مكانها ونسبتها إلى غير قائليها، فقد ردّ عليها في طعنها على خطباء العرب وملوكهم، وبيّن أن "الشعوبية" نسبة غير قياسية إلى الشعوب، لئلا يحدث خلط بينهما.
ولأن الرواة كُثر فقد توخّى الجاحظ الدقة والحذر في تدقيق رواياته وفي نسبة الشعر الذي اختلط بين الناس، إذ يقول: ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح[11].
استطراد في الأحداث.. أسلوب النثر الكاريكاتيري
لم يتوقّف الجاحظ عند أمة العرب في أبحاثه، بل سعى نحو الأمم الأخرى وتعرّف إلى آرائها في قضايا عديدة، فها هو يكشف عن رأي الهند في سبب اختلاف كلام الناس فيقول: وتزعم الهند أن سبب كثرة كلام الناس واختلاف صور ألفاظهم، ومخارج كلامهم ومقادير أصواتهم في اللين والشدّة وفي المدّ والقطع، كثرة حاجاتهم. ولكثرة حاجاتهم كثُرت خواطرهم وتصريف ألفاظهم، واتسعت على قدر اتساع معرفتهم.
سلك أبو عثمان في مؤلفاته مسالك وعرة، واستفاض في أحاديثه كثيرا، لكثرة ما يزخر به صدره من معلومات وأحاديث يريدها أن تلقى في بطون كتبه، فتكلّم فيها على سجيته مُتتبعا منهج الاستطراد، فكان يحكي عن أمر ما، ثم يقوده إلى آخر فيتشعب في الحديث عنه، حتى تتعدّد القصص والروايات، ليعود إلى بداية حديثه ويكشف مرامه الأول.
استند أبو عثمان إلى الدعابة والهزل والطرفة، فقدّم فنا ساخرا في أحيان كثيرة، كما تقرب إلى العامة ونزل إليها يسمع منها ويدون راسما شخصياته نثريا، فبدت أمام القارئ متخيلة بهيكل حي. ففي كتابه ذائع الصيت "البخلاء" يسرد حكايات البخلاء وقصصهم، ويصور فيه البخيل النمطي بصورة عامة لا البخيل الفرد، متحدثا عنه وعن أفعاله وتصرفاته، وطريقة حبه للمال، وكيف يمسك به خوفا من أن يفارق يده بصورة كاريكاتيرية، لكنها مصورة بالنثر يلتقطها القارئ بخياله.
شهيد الكتب.. كتابة السطر الأخير
كان عمرو بن بحر رجلا فذّا في التأليف، فقد صنّف مؤلفات كثيرة (زهاء 360 مؤلفا ضاع أغلبها) في ألوان شتى من المعرفة ذات فوائد جمة، مثل "التربيع والتدوير" و"المحاسن والأضداد" و"الآمل والمأمول" و"فلسفة الجدّ والهزل".
وكان يهديها إلى الوجهاء والوزراء تكسبا من عمله هذا، إذ أهدى "الحيوان" إلى الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات (ت 233 ه)، وأهدى "الزرع والنخل" إلى الكاتب إبراهيم بن العباس الصولي (ت 243 هـ)، كما أهدى "البيان والتبيين" إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد (160-240 هـ)، وكل منهم أعطاه خمسة آلاف دينار جزاء له.
سنة 255 هـ في البصرة، كان رجل عجوز يقف أمام رفوف مكتبته مُتطاولا للحصول على أحد الكتب، يمسك بعكازه ليُعينه على الاستناد حتى يصل إليه، لكنه بينما يحاول ذلك؛ تسقط الكتب عليه فتقتله ويُدفن تحتها، لتطوى بذلك صفحة أحد عمالقة الأدب العربي ورجال العصر الذهبي؛ عمرو بن بحر الجاحظ.
[1] ابن خلكان، وفيات الأعيان، مج 3 (بيروت: دار صادر)، ص 470-473.
[2] ابن نباتة، سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (دار الفكر العربي)، ص 248 وما بعدها.
[3] الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، ج 2، ط 2 (القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي وأولاده، 1965)، ص 284.
[4] المرجع نفسه، الحيوان، ج 6، ص 273.
[5] الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ط 2 (القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي وأولاده، 1965)، ص 74-75.
[6] الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ط 7 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1998)، ص 75.
[7] الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، ج 3، ط 2 (القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي وأولاده، 1965)، ص 131.
[8] للاطلاع على هذا الرأي وآراء أخرى انظر: الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ج 1، ط 7 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1998)، ص 5.
[9] المرجع نفسه، ص 20، 88، 116.
[10] رمضان عبد التواب، لحن العامة والتطور اللغوي (القاهرة: مكتبة زهراء الشرق، 2000)، ص 18.
[11] أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، تحقيق إحسان عباس وإبراهيم السعافين وبكر عباس، ج 2، ط 3 (بيروت: دار صادر، 2008)، ص 9.