رواية IQ84 للياباني موراكامي.. سحر الخيال ومتعة القص
الكتابة بحد ذاتها خيال جامح، يتبارى فرسانها في إبراز أسلحتهم وما يميزهم، لكن التحدي الأكبر لمن يقررون السباحة في عالم الخيال هو قدرتهم على جذب قرائهم والاستحواذ على حواسهم وسط هذا العالم الذي بات يفوق الخيال في تفاصيله. ليس هذا فقط، بل الأكثر أهمية هو كيفية ربط هذا العالم الخيالي بالحقيقي من دون الوقوع في فخ الخفة أو الرتابة.
في روايته "1Q84" دخل الأديب والروائي الياباني الشهير هاروكي موراكامي في سرداب سري من الخيال لم ينافسه فيه غيره من قبل، مازجًا بين عوالم خيال قديمة جدًا لا تشبه إلا قصص الجدات وبين واقع شديد الحداثة والتعقيد.
ويظهر في عالم الرواية قمران، وأناس صغار يتحكمون في شخوصه ومصائرهم، وخير وشر يتصارعان، لكنك لا تلمس الخيط الفاصل بينهما بوضوح، فتحتار كثيرًا بين المساحات الرمادية، وثمة أبطال يتحركون كعرائس مربوطة بخيوط، وهنا يحقق الكاتب نصرًا جديدا بإرباكه القارئ وإقحامه في الحكاية، فلا يسعك الخروج من سحر الخيال ولا ترك القراءة.
وفي تقييمها للرواية، قالت مجلة نيوزويك الأميركية "إذا كانت هذه الرواية أشبه ببيت المرح، فإنه ذلك المرح الموغل في الجدية، عندما تدخله تجازف بكل ما لديك من قَنَاعات".
منذ البداية نتساءل ماذا يعني الكاتب وماهية تلك الأرقام التي طرحها، لنجد أنه اختار عنوانًا خاصا لروايته، فحرف (I) يعني في اليابانية الرقم "1"، و(Q) يعني الرقم "9" (أو اختصار كلمة سؤال بالإنجليزية)، فيصير اسم الرواية مرادفا تماما لرواية جورج أورويل "1984"، كما أن أحداثها تدور في تلك السنة نفسها ولكن في اليابان.. طارحًا مقارنة محيرة تتواصل معك على مدار الأحداث.
لم يكن استخدامه للاسم ذاته عبثًا بالتأكيد، بل إنه كان يؤكد أفكارًا بعينها خاصة ما يحدث من تلاقي مصالح للجهات المهيمنة على الدول والأمم والتي تتحكم في مصائر الأشخاص. كما تحدث عن المؤسسات الدينية وسطوتها على أفرادها، والجهات التي تضع غطاء لتطرفها متلحفة بالدين أو الليبرالية أو حتى المصلحة العامة، كما لم يغفل الماضي وكيف يخنق الناس ويقيد انطلاقهم نحو ما يريدون.
وتدور أحداث القصة في العام 1984 في الجزء الأول بين أبريل/نيسان ويونيو/حزيران، والثاني بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول، والثالث بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول، وتبدأ الرواية بهروب أومامة عبر مخرج الطوارئ حتى لا تتأخر عن موعدها، لتلاحظ أشياء غريبة تجعلها تقرر أنها تعيش في عالم موازٍ آخر يحمل شكوكا وتساؤلات عديدة.
- لعبة السرد
اختار موراكامي أن يمضي في كتابة الأحداث في مسارين يخص كل منهما شخصًا من أبطال روايته التي صدر منها ثلاثة أجزاء، جل ما يفعله في فصوله العديدة الغوص في تفاصيل شخصياته الدقيقة من دون الوقوع في فخ الرتابة والملل الذي يحدث عادة مع هذا النوع من الروايات.
أومامة.. تنغو.. بطلا القصة هنا من جيل تأثر كثيرًا بالحياة بين حواف عالم عادي عاشه الآباء وآخر متسارع ومتنوع وجديد تماما يعيشونه الآن، ولكل منهما طبيعة خاصة وظروف هيأت منهما ملحمة قصصية روائية، وتتكشف طبيعة كل منهما على ما يزيد عن 1800 صفحة.
وفي عرضها للرواية، اعتبرت مجلة ذي كريستيان ساينس مونيتر أن أومامة وتنغو بطلي الرواية الرئيسيين يسيران أحدهما نحو الآخر وكأنهما غواصان يشقان طريقهما نحو سطح الماء، "عندما انتهيتُ من قراءة "IQ84" شعرت كما لو أنني أنا الآخر، كنت أصعد نحو السطح، وحتى بعد أيام من قراءتها، ظل العالم لا يبدو لي مثلما كان عليه".
أومامة.. الوجه الآخر للحقيقة
أومامة تلك الفتاة اليافعة التي تعمل مدربة للرياضة البدنية هي بالأساس قاتلة مأجورة محترفة ولكنك لا تستطيع إلا أن تتعاطف معها، لأن الكاتب يغذيك دوريًا بدوافع ويكشف لك خيوطًا للوقوف في صفها أحيانا ولتبغضها في أحايين أخرى.
لتراجع مع ذاتك تلك الجملة التي نطق بها سائق سيارة الأجرة على مسامعها قبل أن تقع في العالم الآخر "إن الشكل المألوف للأشياء ربما يبدو وقد تغير قليلا، ربما تبدو الأشياء مختلفة في نظرك عما كانت عليه من قبل ولكن لا تدعي المظاهر تخدعك.. دائمًا هناك حقيقة واحدة فقط".
وهنا تنتابك مشاعر متناقضة بين ما تؤمن به وما تتعاطف معه لحظيًا عندما تكون مراقبًا من بعيد تدرك جميع خيوط اللعبة ولست طرفًا فاعلا فيها، فكيف تتصرف وأنت متلبس بالشفقة على قاتلة قررت تغيير وقت موت أحدهم؟!
- تنغو.. الواقع والحلم
أما تنغو فهو شاب يشبه كثيرين في أوطاننا، ساقته ظروفه ليعمل مدرسًا لكسب قوت يومه، لكنه يحلم أن يكون كاتبًا، ولأن المهنة الأخيرة لا تدر عليه دخلا كافيًا يدخل في لعبة بدأت بسيطة لكنها قادته إلى مخاطرة كادت أن تودي بحياته، وهي استثمار مهاراته في الكتابة في تعديل نص أدبي لفتاة في 17 من عمرها لتفوز تلك الرواية بجائزة لكنها لا تغير طريقه فحسب، بل غيّرت عالمه بالكامل.
يقع تنغو فريسة لكل مشكلات المدنية والتحضر، ويبقى في صراع الحفاظ على إنسانيته رغم مروره بطفولة بائسة وجحيم كونه لا يشعر أن أباه هو والده الحقيقي، يصارع هناك على مدار أحداث الرواية بشأن يجب عليه فعله بدافع المصلحة وما يجول بخاطره بصفته إنسانًا طيبا.
وفي الطريق يكتشف أنه غارق في حب فتاة كل ما يتذكره عنها أنها لامست يديه يومًا ما عندما كان في نهاية دراسته الابتدائية، وهنا يسرب لنا موراكامي كيف للحب أن يكون طوق النجاة حتى وإن كان عن بعد وبلا تواصل جسدي أو علم حتى بوجود الطرف الآخر.
الحب والخوف.. الخيبة والأمل.. الشك واليقين.. الحقيقة الصرفة والخيال التام.. العدل والظلم.. الهيمنة والانسياق.. مفاهيم عديدة طرحها موراكامي في روايته الضخمة نسبيًا لكنها رغم ذلك تسحب القارئ بسلاسة ليكملها.
لا يمكن اختصار كل تلك الصفحات المديدة من المتعة بكلمات، ولكن سيفوت القراء عالمًا ساحرًا تتغير بعده نظرتهم للحياة إلى حد كبير لو لم يمروا على تلك الحكايات في ذلك العالم الذي يعج بالإبداع الذي نصب شراكه موراكامي بحنكة كاتب لديه مخيلة استثنائية وفكرة أبدية استطاع أن يدور مع خيوطها ويعقدها ثم يفكها ثم يعيد تعقيدها مرة أخرى، فلا يسعك عند إغلاق غلاف الجزء الأول إلا البحث عن الجزء الثاني ثم الثالث.. وبعد أن تنتهي من الرواية تفكر بشكل مختلف في كل مرة تعبر فيها شارعا رئيسيا مزدحما بأن تلج إلى نفق يأخذك إلى عالم بقمرين وأناس صغار.
وصدرت الأجزاء الثلاثة بين عامي 2009 و2010، وصدرت الترجمة العربية للجزء الأول عن المركز الثقافي العربي عام 2016 تلتها الرواية الثانية عام 2017 والثالثة 2018 عن المركز ذاته.