نازحو اليمن.. ظروف صعبة وحنين إلى الديار
تقترب حرب اليمن من عامها الخامس مع كلّ ما تحمله من بؤس وأسى للسكان، لا سيّما النازحين منهم الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم وانتقلوا إلى مناطق أخرى في أنحاء مختلفة من البلاد.
قبل أربعة أعوام، انتقل محمد العمراني (12 عاماً) مع والدَيه إلى مدينة مأرب، شرقي اليمن، نازحاً بعد سيطرة الحوثيين على منطقتهم في عمران، شمالي البلاد. ولأنّ الصغير لم يكن يتجاوز حينها الثامنة من عمره، لم يدرك سبب مغادرة قريته وترك أصدقاءه وملابسه ومقتنياته الشخصية وراءه، لكنّه فهم أخيراً أنّ الحرب هجّرت أسرته.
يقول لـ"العربي الجديد": "لا أتذكّر جيّداً قريتنا، لكنّ والدتي تحدّثني كثيراً عنها وعن جدّتي وأبناء عمّي مؤكّدة لي أنّنا سوف نعود إليها يوماً ما. لكنّني لا أعلم متى". ويتابع محمد تعليمه في إحدى مدارس مأرب المكتظة بتلاميذ نازحين من كل المحافظات اليمنية، وهم جميعهم يحملون قصصاً مشابهة لما عاشته أسرته.
في مأرب نفسها، ومنذ أربعة أعوام، يحاول فارس السريحي الاستقرار. يقول الرجل الأربعيني لـ"العربي الجديد": "أعيش هنا في وضع أشبه بالإقامة الجبرية. فأنا لا أستطيع العودة إلى منطقتي وأسرتي لأسباب أمنية. فأيّ شخص يعود من خارج مناطق سيطرة الحوثيين يُعَدّ عدواً. كذلك، لا أستطيع استقدام أسرتي إلى هنا بسبب تعقيدات التنقّل في البلاد ومخاطر اختطاف المسافرين أو الزجّ بهم في السجون على مدى أعوام لمجرّد الاشتباه بهم".
يضيف السريحي أنّه "من الصعب على المرء أن يصف شعوره كمهجّر في وطنه. هو لا يستطيع زيارة أسرته ولا أقاربه، ولا منطقته التي ولد ونشأ فيها وقضى فيها طفولته وشبابه والتي لا تبعد عنه مسافة طويلة"، موضحاً أنّ "الأمر يزداد سوءاً في حالات المرض ومناسبات الأفراح والأتراح".
ويشير السريحي إلى أنّ "النازحين يعيشون في وضع يمكن اختصاره بحياة البرزخ، فهم لا يملكون القدرة على تعجيل خلاصهم والانتقال إلى أيّ وضع آخر". ويتابع السريحي أنّ "سنوات الحرب والنزوح أسهمت في تغيير ملامح الأرض والأشخاص، فقد التحق بنا في مناطق النزوح رجالاً كنّا قد تركناهم أطفالاً، فيما شبّ هنا آلاف الصغار الذين لا يعرفون أجدادهم وأعمامهم وأقاربهم في مسقط رأسهم، والاتصالات الهاتفية نادرة فلا تكفي لجعلهم يشعرون بأجواء عائلية".
وتمتدّ خريطة النزوح اليمنية على كامل مساحة البلاد. كثر هم الذين لجأوا إلى صنعاء وقد ظنّوا أنّ ثمّة فرصاً فيها للعمل وزيادة الموارد والحصول على خدمات صحية وعلى الأمن وغير ذلك، بالمقارنة مع حياة النزوح في الريف اليمني الذي يفتقر إلى كثير من الفرص والخدمات.
لكنّ المنظمات الأممية والدولية لم تتمكّن طوال سنوات الحرب التي تقترب من الخمس، من إحصاء أعداد النازحين في المدن ولا مواقع تمركزهم ولا مدى استفادتهم من الخدمات نظراً إلى صعوبة تحديد مناطق سكنهم.
فأنماط سكن النازحين في المدن تختلف ما بين خيم في مساحات مفتوحة، خصوصاً في المدن الثانوية وشبه الريفية، والسكن في مبانٍ قيد الإنشاء التي تُعرَف محلياً بـ"الدكاكين"، واستئجار مساكن خاصة وفقاً لأوضع الأسر النازحة الاقتصادية، والعيش لدى الأقارب.
أبو إبراهيم الصعدي (اسم مستعار) من ريف محافظة صعدة الحدودية مع السعودية (شمال)، يخبر "العربي الجديد" أنّه اختار النزوح مع أسرته إلى مدينة صنعاء منذ بداية الحرب، "نظراً إلى توفّر الأمن". ويشرح: "في قريتي قد أتعرّض للخطر كوني أنتمي إلى تيار ديني مناهض للحوثيين (سلفي)، أمّا في المدينة الكبيرة فأذوب في المجتمع والسلطات لا تعلم عنّي شيئاً وأعيش كما يفعل غيري من السكان".
يضيف الصعدي أنّ "حياتي هنا أفضل وأكثر أماناً"، موضحاً أنّ "ما ساعد في ذلك هو استحصالي على هوية مزوّرة، فيما يستمرّ أخي الأكبر الذي يعمل في السعودية بدعمنا مادياً من خلال حوالات مالية شهرية".
عدد كبير من النازحين المعدمين اختاروا العيش في المدن،داخل خيم من الخشب والنيلون نصبوها على أراض مفتوحة تحيط بها أسوار تعود إلى ملاك قبلوا استضافتهم شريطة إخلاء المكان عند طلب ذلك وعدم تشييد مبانٍ في المكان أو مدّ تجهيزات للصرف الصحي أو تحويل الأرض إلى مكبّ للنفايات.
من جهة أخرى، سعى ملاك مبانٍ كبيرة قيد الإنشاء إلى استقبال أسر نازحة فيها. ويخبر محمد سعيد، النازح في منطقة الحوبان مدخل مدينة تعز (جنوب غرب)، أنّ "المقاتلين الحوثيين كانوا يتمركزون داخل المباني قيد الإنشاء فتستهدفها طائرات التحالف العربي، لذلك راح ملاكها يضعونها في تصرّف النازحين، ثمّ يُطلب من منظمات الإغاثة التي تزورهم إدراج إحداثيات تلك المباني في تقاريرها التي ترفعها إلى قوات التحالف بهدف تحييدها".
يضيف سعيد أنّ "تلك المباني صارت مكتظة بالسكان، وتخصّص غرفة واحدة لكلّ أسرة فيما المراحيض مشتركة بين ثلاث أو أربع أسر، علماً أنّها تعاني جميعها من صعوبة جلب المياه وحملها إلى الغرف".
وفي داخل مدينة تعز التي تسيطر على معظمها القوات التابعة للحكومة الشرعية، تكثر المنازل الفارغة والمتضررة التي ما زال أصحابها نازحين إلى خارج المدينة، إمّا بسبب تضرّرها وإمّا بسبب انتماء أصحابها السياسي إلى الحوثيين. بالتالي، راحت تمثّل سكناً ملائماً لنازحين آخرين أو عائدين من أبناء المدينة الذين تضرّرت بيوتهم لدرجة أنّها لم تعد صالحة.
يكثر الفقر في أوساط الأسر النازحة في محافظة الحديدة الساحلية (غرب)، بالتالي لم تجد بديلاً من اللجوء إلى استئجار "دكاكين"، بعضها مزوّدة بمراحيض. ويضطر أفراد تلك الأسر إلى الخروج إلى الشارع لمدّة ساعتَين يومياً، في الصباح، من أجل تهوية "الدكاكين" من الرطوبة.
بالنسبة إلى تلك الأسر، فإنّ الأولويّة هي لأفرادها في ما يتعلّق باستحقاق مواد الإغاثة، لكنّها تسجّلت في قوائم الإغاثة لدى أكثر من منظمة من دون أن تلقى بمعظمها موافقة على منحها مساعدات، على الرغم من بؤسها الواضح.
سمير الزبيدي الذي نزح إلى صنعاء، من الذين يستغربون حرمانه من المساعدات بين وقت وآخر، مشيراً لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "ثمّة من يطلب منّا الذهاب للقتال فتوفَّر لنا المساعدات بشكل دائم. لكنّني مريض ولا أقوى على القتال". يضيف أنّه يعيش على "المساعدات التي يقدّمها لنا السكان بالإضافة إلى العمل في تنظيف السيارات أمام المطاعم والمراكز التجارية الكبيرة في صنعاء".
في السياق، يصف رئيس الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين في اليمن نجيب السعدي وضع النازحين في اليمن بـ"الصعب"، مشيراً إلى "ضرورة توفير احتياجات كثيرة لهم". ويقول السعدي لـ"العربي الجديد" إنّ "أزمة النازحين أزمة كبيرة جداً نظراً إلى ارتفاع عددهم إلى نحو أربعة ملايين و200 ألف نازح، من بينهم 56 في المائة من الأطفال".
ويشرح السعدي أنّ "الذين يعيشون في مخيمات ومواقع عشوائية لا يشكلون إلا 12 في المائة من مجموع النازحين، فيما الباقون يقطنون في بيوت إيجار أو لدى مضيفين". يضيف أنّهم "يفتقرون إلى الخدمات الأساسية، وكلّ ما يقدَّم لهم من مساعدات هو مؤقّت".
ويطالب السعدي "المنظمات المعنية بمساعدة النازحين بالعمل على تنفيذ مشاريع تضمن تقديم مساعدات ذات أثر ملموس. على سبيل المثال، بدلاً من إقامة فصول دراسية مؤقتة، لماذا لا تشيّد غرف إضافية في المدارس القريبة أو مدارس بحدّ ذاتها يستفيد منها النازحون والمجتمع المضيف على حدّ سواء. كذلك، بدلاً من توزيع السلال الغذائية، من الأفضل تنفيذ مشاريع اقتصادية تدعم البنية التحتية للمنطقة وفي الوقت نفسه توفّر فرص عمل للنازحين".
ويلفت السعدي إلى أنّ "الأطفال النازحين في سنّ الدراسة هم بمعظمهم غير ملتحقين بالتعليم، إمّا بسبب عدم توفّر المدارس وإمّا عدم توفّر تكاليف الكتب والقرطاسية"، متابعاً أنّ "النازحين يتلقون الخدمات الصحية لا تتجاوز نسبتهم 10 في المائة".
من جهة أخرى، استقرّت آلاف الأسر المهجرّة في خارج اليمن، ويعاني بعض منها ظروفاً معيشية صعبة. وتحاول أسر كثيرة بدء حياة جديدة بعدما يئست من إمكانية العودة إلى اليمن، علماً أنّها بمعظمها تعيش في السعودية ومصر والأردن وتركيا وقطر وعدد من الدول الأوربية في مقدّمتها ألمانيا وهولندا وسويسرا.
ابتسام الشرعبي (اسم مستعار) اختارت العيش مع أفراد أسرتها في مصر، بعدما تصاعدت وتيرة المواجهات المسلحة في مدينة تعز. تقول لـ"العربي الجديد": "زوجي يعمل في السعودية، وبسبب الحرب قرّرنا الانتقال للعيش في القاهرة. فالتكاليف هنا هي نفسها كما في تعز، لجهة الإيجار وتعليم الأولاد والمأكل والمشرب"، مشيرة إلى أنّ زوجها يلتحق بهم في مصر في كلّ إجازة يحصل عليها.
وتلفت الشرعبي إلى أنّ "اليمنيين لجأوا بأعداد كبيرة إلى مصر، وكثيرون منهم أوضاعهم المعيشية صعبة وينتظرون انتهاء الحرب للعودة إلى منازلهم في اليمن".
أمّا رماح الجبري الذي اعتقله الحوثيون في الرابع من إبريل/ نيسان 2015 في صنعاء على خلفية نشاطه الإعلامي، فقد انتقل فور الإفراج عنه إلى السعودية.
يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "لا شيء يعوّض الوطن والأهل والأصدقاء وزملاء المهنة"، مضيفاً أنّه "مع كل جولة مفاوضات أو بوادر للحلّ السياسي، نحلم بالعودة إلى أحضان الوطن.
ومع تزايد التعقيدات، يتسلل اليأس أحياناً فنفكّر في إمكانية اللجوء إلى بلد أوروبي والبدء بحياة جديدة أسوة بكثير من الزملاء والأصدقاء".