مشروب المتصوّفة وذهب اليمن الأخضر.. أدباء يحتفون بالقهوة وفناجين الأحزان
تزامنا مع "اليوم العالمي للقهوة" الذي يوافق مطلع أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، احتفى اليمنيون بالقهوة اليمنية هذا العام ولسان حالهم "العالم مدين لليمن بمشروبه المعاصر الأهم (القهوة) ومدين أيضا بمنحها السلام".
لكن مثقفين وأدباء وشعراء يمنيين كان لاحتفائهم بالبن اليمني نكهة الإبداع ومذاق الغصة والمرارة في الآن نفسه، بسبب من انعكاسات الحال اليومي لهم، حيث جاء الاحتفاء بالقهوة في ذروة انكسارهم وشعورهم بالخذلان نتيجة لضبابية المشهد السياسي العام سنوات الحرب وفي ظل مجاعة وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأكثر سوءا.
ومع أن المنظمة الأممية خصصت يوما واحدا للاحتفال السنوي بالقهوة بداية أكتوبر/تشرين الأول، فإن شعراء وأدباء ومثقفين يمنيين واصلوا حملتهم لأكثر من أسبوع تحت وسوم مثل #البن_اصله_يمني #موكا_اصله_يمني
- أصله يمني
في سياق احتفائهم لم تقف حملة البن -الذي انطلقت أولى شحنات تصديره للعالم من ميناء المخا بالقرنين 15 و16 الميلاديين- على فيسبوك وتويتر، عند المنشورات التفاعلية وتشارك الأغنيات العاطفية وتداول الصور الفوتوغرافية لأشجار البن وثمارها الحمراء اليانعة، بل جاءت لتفجر إبداعات اجترحتها قرائح شعراء هاربين من أنباء الحرب وشتات اللحظة القاسية إلى رشفة من فنجان حزن، في الوقت الذي تواصل الأطراف المتصارعة معاركها على الأرض.
ويحتفل أدباء وناشطون يمنيون كذلك بيوم خاص بالبن اليمني، ويطلق على 3 مارس/آذار من كل عام "عيد موكا".
وموكا اسم ميناء المخا القريب من باب المندب الذي شهد انطلاق أولى رحلات تصدير البن اليمني إلى العالم قبل مئات السنين.
- في ظلال شجرة
محتفيا بالقهوة اليمنية، يفتح الشاعر يحيى الحمادي نافذة أمل، داعيا اليمنيين للتصالح والجلوس تحت ظلال شجرة البن حاملين فؤوسهم في حقوله ومزارعه عوضا عن حمل أسلحتهم في جبهات الحرب. ففي قصيدة نشرها في صفحته على فيسبوك، أنشد:
لَــنَـا هـــذي الـبِـلادُ.. ونَـحـنُ فِـيـها
كَــآثَـارِ الـلُّـحُـومِ عـلى الــضُّـرُوسِ!
فَمــاذا لَـــــو خَــرَجـنـــا الآنَ مِــنّــا
وقُــدنــا الــنَّـهـرَ لِـلـحَـقلِ الـيَـبُـوسِ
وجَـمَّـعـنا الـشُّـمُـوعَ إلــى شُـمُـوسٍ
وحَـوَّلـنـا الـسّـيـوفَ إِلـــى فُــؤُوسِ
وذُبــنَـا فـــي ظِـــلالِ الــبُـنِّ شَـوقًـا
إلى الـخَضراءِ مِـن قَـحطٍ يَؤُوسِ؟!
فَلا يُجــــدِي البُكـــاءُ علــــى تُرابٍ
إِذا الأَوطـــانُ مـاتَـت فـي الـنُّفوسِ.
- فناجِينُ الأحزان
الشاعر بديع الزمان السلطان يلملم من جهته مواجع البلاد في فنجان حزن حيث يعلن في قصيدة له نشرها بمواقع التواصل احتفاء بيوم القهوة العالمي انتماءه لليمن الأم وتعلقه بها، فهي تجري في شرايينه وتسكن دمه بنكهة بن خالصة، يقول في مطلع قصيدة عنوانها "فناجين الأحزان":
كاليَاءِ أكتُبُني كالميمِ والنُّوْنِ!!
كنكهةِ البُّنِّ تجري في شراييني
كسُمْرَةِ الكادِحينَ السُّمْرِ في وطني
كلَثْغَةِ الطِّفْلِ بينَ التُّوْتِ والتِّيْنِ
كلَهْفَةِ الجائعينَ الوَاقفينَ على
مخابزِ الوَهْمِ بينَ الحِينِ والحِيْنِ
أنا أصالةُ هذا البُنِّ طِينتُهُ
وعطرُهُ المُنتشي بينَ البساتينِ
الله.. كم تعشقُ الأقطارُ نكهتَهُ
وتشتهي ريحهُ كلّ الطّواحينِ
"صنعاءُ" يا أُمَّ أحزاني وربّتَها
إنّي أحبّكِ حُبّاً غيرَ ممنونِ
ولي فناجينُ أحزاني أقاسِمُها
قصائدي وأغنّي مثل مجنونِ
كم تؤلمُ الشّاعرَ الإنسانَ في بلدي
هذي المعاركُ بينَ الماءِ والطّينِ
غدًا ستُغلِقُ هذي الحَربُ ساحتَها
وأمرُ ربّكِ بينَ الكافِ والنُّونِ!!
أما الشاعر محمد الشميري، فلم يكتف بقصيدة واحدة، لكنه نشر سلسلة منشورات وقصائد من شعر التفعيلة الذي يكتبه بتميز، متغنيا بسمرائه التي لا عيش له بدونها، يقول:
سمراءُ
من كفّها تنساب أودية
فوق السحاب
وريح البنّ تغشاني!
كما تشارك الشاعر محمد الشميري صورة تم تداولها بفيسبوك لطفلة وسط حبات البن المبثوثة في المكان المحيط بها وعلى ظهرها دلو (وعاء) فيه حفنة من حبات ثمرة البن أثناء تشريقه بعد مرحلة الحصاد. ويكتب:
إن تكوني "بُنّةً" يا طفلتي
فأنا حقل الحكايات أنا!
وغير بعيد، افتتح محمد الشميري واحدا من صباحاته الحزينة بمقطع تماهت فيه رشفة بن مع موجة وجع وانتظار أبواب الصمت المغلقة، حيث يقول:
لا أحمل شيئا هذا الصباح
يحملني صمتُ القهوة
وبداخله فمي
لا أنتظر بابا يُفتح
في ضلوعي أبواب
تتعكز ضوء هروبي
أبجديةٌ تنتظر وقوفي
نبضٌ يتحاشاه الدخان
بقيّة مما ترك الرمل
على قارعة البحر
لم أكتب سطرا
منذ البارحة المقمرة
ومن جهته، كتب الشاعر والباحث أحمد الطرس العرامي في منشور له على فيسبوك أنه: بحسب الميثولوجيا الإغريقية فإن الإله أوزيريس، الذي لقّن الإغريق علم الزراعة، تعلم طريقة زرع الحبوب في العربية السعيدة (اليمن) وفيها اكتشف لأول مرة الكروم وتذوق الخمر المتخذ منها.
وبسخرية يختم "نحن أول من جعل الآلهة تسكر.. ولذلك لا أستبعد أن نكون أول من علّم العالم احتساء القهوة، وعاد بنخليهم يُخزِّنوا (أي يمضغون القات)".
- بنت اليمن
يتأسف الروائي المعروف علي المقري، الذي يقيم بفرنسا منذ سنوات، على مآلات يمنية كثيرة "حين يتحول كل شيء إلى ذكرى بما في ذلك بنت اليمن". ويضيف في صفحته على فيسبوك تفاعلا مع مناسبة يوم القهوة العالمي "هكذا كان العرب يسمون القهوة بنت اليمن، كما يسمى العابر ابن السبيل والإبل بنات الفلا والهموم بنات الصدور".
والآن، تذهب إلى محل لبيع البن في أي مدينة أوروبية لتشتري بُن موكا Café moka، نسبة إلى ميناء المخا التاريخي في تصديره للبن، فتجده في كيس كبير وضع ضمن قسم البن الإثيوبي! ولا تستطيع أن تقنع البائع بأن الاسم له علاقة باليمن وليس إثيوبيا التي جاء منها هذا البن باسمه الشهير! هناك مقاه كثيرة، أيضا، تحمل اسم موكا، ولا يعلم معظم أصحابها ما أصل هذه الكلمة.
واحتفل اليمنيون بالبن هذه السنة، باعتبارهم مواطني البلد الأول لهذه الشجرة المهمة، لكنّه ضرب من الوهم. فكما نحتفي بثورات بلا وطن وبثوار بلا ثورات، صرنا أيضاً نحتفي بتاريخ بلا ذاكرةّ، بيمن بلا يمن!
- كنز فوق الشجر
ارتبط التأريخ لبدايات تناول القهوة اليمنية بعالم التصوف، حيث تقول روايات إن متصوفين يمنيين في الزمن البعيد ابتكروا القهوة شرابا لهم يعينهم على السهر والعبادة ويحسن من مزاجهم، وهي الحال الآن حيث كوب من القهوة يحسن المزاج، ويلهم الشعراء والمبدعين.
وكثيرا ما تغنى اليمنيون في السنوات والعقود الأخيرة بالحب والبن في أغنيات لمشاهير الفنانين الكبار، تتحدث عن ارتباط البن بثقافة اليمنيين وتسرد بين ثناياها كثيرا من قصص الحب والغرام على هامش مواسم حصاد البن وبين مزارعه. ومن أكثرها شهرة وانتشارا أغنية "الحب والبن" بصوت الفنان اليمني الراحل علي بن علي الآنسي، وهي من كلمات الشاعر الراحل مطهر الإرياني. والأغنية يرددها العشاق والمزارعون والكبار والصغار على السواء، وقد غناها أيضا فنانون آخرون مثل أيوب طارش، وهذا مطلعها:
بُنّ اليمن يا دُرر
يا كنز فوق الشجر
من يزرعك ما افتقر
ولا بُلي بالهوانِ
- زحف القات
نشير ختاما إلى ما تعرضت له زراعة البن اليمني ومساحاته في الآونة الأخيرة، وكذا صادراته من انحسار وتراجع لأسباب كثيرة، منها زحف مزارع القات واستحواذها على مساحات كثيرة على حساب زراعة البن في كثير من مناطق اليمن، لأن القات يوفر دخلا سنويا مستمرا وغير منقطع للمزارعين. بينما هناك موسم واحد فقط لحصاد البن طوال السنة، ناهيك عن غياب الاهتمام بتوعية المزارعين بأهمية زراعة أشجار البن والحفاظ على زراعته باعتباره رمزا للأصالة اليمنية ومنتجا ارتبط بالبلاد، فيُطلق عليه "ذهب اليمن الأخضر" كما أطلق كثيرون على الثورة الشبابية الشعبية اليمنية 11 فبراير/شباط 2011 اسم ثورة البن.