الطاعون والأوبئة في الروايات الأدبية.. من سيكتب حكاية كورونا؟
لزمن طويل قبل انتشار فيروس كورونا كان موضوع الوباء تقليدا أدبيا مبثوثا في التاريخ الأدبي، وتناول عدد من الروائيين والشعراء قصصا إنسانية تتراوح بين الألفة والفراق، ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وكذلك المحاصرين في الحجر الصحي أو الخائفين من العدوى أو الفارين من الموت.
متنوعة هي موضوعات الأدب، ولأنها كذلك لم تخل مما لا نحب، وكثيرا ما خرجت القصائد والقصص والروايات من رحم المعاناة الإنسانية، ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة "الكوليرا" للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، والتي نالت شهرتها بسبب فني، حيث رأت نازك أنها اخترعت حينها الشعر الحر، مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه (مدينة رشيد) بمصر عام 1895.
وفي الموضوع ذاته كتب الصحفي والشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج قصيدته "معسكر الكوليرا" بعد عام، ويبقى السرد والرواية بشكل خاص أوسع بابا، وأكثر تفاصيل، وهذا ما شهدت به روايات كثيرة.
- ألم الذات وألم الآخر
لعل الميزة الأهم للمبدع قدرته على التعبير، وأن يقول ما يشعر به الآخرون ولا يقدرون على وصفه.
وتبقى تجربة الألم وكتابته تجربة استثنائية حركت أقلام مبدعين كثر، وكان لألم المرض نصيب كبير كما في أشعار العراقي بدر شاكر السياب، والمصري أمل دنقل، والسوداني التجاني يوسف بشير وغيرهم.
ومن الروايات التي جسدت المرض وحكت عن تجارب ذاتية مع المرض "استئصال" للروائي المغربي طاهر بن جلون، و"ساقي اليمنى" للشاعر المصري وائل وجدي، و"يوميات امرأة مشعة" للقاصة المصرية نعمات البحيري، وربما أتت في كتابة عن الآخر مثلما فعل القاص السوداني علي المك في نصه القصصي "للمستشفى رائحتان".
خصوصية تجربة المرض وتأرجح المريض فيها بين احتمال الموت ورغبة الحياة والتغير الطارئ على المريض وتفاصيل يومه تجعل السرد يتوسل بطرائق مختلفة، ويلامس أشياء أخرى في الفكر والفلسفة والدين، وربما تتغير نظرة الكاتب للألم باقترابه منه كما فعل الكاتب المصري الراحل سيد بحراوي في كتابه "مديح الألم" حين قال "انشغلت بموضوع الألم وشغفت به نحو عام، قبل أن أبدأ علاج السرطان، ثم توقفت إجباريا، لكن بعد انتهاء العلاج المؤلم أعود إليه، أريد أن أمجده باعتباره قرين الحياة، فلا حياة بلا ألم".
- عمى سارماغو
استطاع الروائي البرتغالي جوزيه سارماغو في روايته "الرمز" التعرض لأمراض كثيرة تضرب المجتمعات ولسلوك الحكومات، مركزا على تبدل السلوك بتبدل الظروف وتغيرها، وكيف أن نظرتنا للأمور قد تتغير بتغير الظروف، وكتب "عندما تطوع الرجل الذي سرق السيارة لمساعدة الأعمى، لم تكن لديه أي نية سيئة في تلك اللحظة بالتحديد، على العكس من ذلك فما فعله كان الانقياد لمشاعر الشهامة والإيثار".
وفي مقطع آخر من الرواية يقول الروائي الحائز على جائزة نوبل في الأدب "تبدي الحكومة أسفها لاضطرارها إلى القيام بالسرعة القصوى لما تعده واجبها الحق، لحماية الشعب بكل الوسائل الممكنة في هذه الأزمة الحالية، التي تبين أنها تحمل مظاهر وباء عمى أبيض يعرف مؤقتا بالمرض الأبيض"، ومثل حكومات عديدة كانت حكومة المدينة التي ضربها وباء العمى تحاول التصرف.
بنى سارماغو عالم روايته بشكل متخيل، وصنع وباءه في المدينة التي رسمها ولم يسمها مثل شخوص روايته، لكن الناقد السوداني عبد المنعم عجب الفيا يرى في حديثه للجزيرة نت أن هناك رابطا دائما بين الواقع والمتخيل "تختلف قوته وحدته باختلاف العمل، لكنه موجود وإن بهت".
ويضيف الفيا أن "النص الأدبي هو محصلة لتفاعلات الكاتب مع المحيط التاريخي والاجتماعي الذي يتحرك ويكتب فيه وتغذي تجارب الكاتب وذكرياته وعلاقته الاجتماعية ونزعاته الفكرية والفنية ذلك".
- حب وجدل انتماء
"إن الرأي العام شيء مقدس، وينبغي ألا يثار الاضطراب فيه" رغم أن الجملة مأخوذة من رواية "الطاعون" للكاتب المسرحي والروائي الفرنسي الشهير ألبير كامو التي كتبت قبل عشرات السنوات فإنها تحيلنا لتعامل بعضهم مع كورونا، من محاولة التكتم والتستر لا التعامل الشفاف ومواجهة الضيف الثقيل.
ولم تخل رواية ألبير كامو من الخيال وإن حدد المكان (وهران) وجعل الوباء معروف الاسم ومحدد الزمان (1947)، لكنه وظف ذلك في الإشارة بالرمز إلى غايات أخرى يمكن إدراكها بالنظر لسياق الحرب العالمية.
ويقول نقاد أدبيون ان الأديب الفرنسي استخدم الطاعون رمزا يشير إلى الغزو الألماني لأوروبا مدفوعا بأيديولوجية نازية تتضمن الإبادة الجماعية.
وتناقش الرواية أمر البدايات التي لم تكترث لها السلطة في وهران، والتبريرات المعهودة، فمن ظهور جرذ أمام عيادة الطبيب إلى نفوق الجرذان الغازية لدائرة مكافحة الجرذان، ثم حالات الموت، وكما يقول الراوي "الواقع أن أحدا لم يفكر في أن يتحرك ما دام كل طبيب لم يقف إلا على حالتين أو ثلاث، ولكن كان بحسب بعضهم أن يفكر بجمع الأرقام فيذعر ويبهت".
"طاعون" ألبير كامو كان لجدل القدر والقضاء الواقع مساحة واسعة فيه بين طبيب ملحد وقس وصحفي جاء زائرا، فصار من أهل المدينة لا يستطيع مغادرتها بعد أن عزلت وهران عن العالم، هذا الحجر منع الصحفي من حبيبته، وحال بين الطبيب وزوجته التي كانت خارج وهران للاستشفاء، لم يضمها الطاعون إلى قائمته السوداء، لكن الموت لم يتركها خارجه أيضا.
- إيبولا.. الذعر وأحاديث أخرى
رغم تعدد روايات الأوبئة والأمراض وسبقها لروايته "إيبولا 76" فإن الروائي السوداني أمير تاج السر وضع بصمته الخاصة في رواية أكثر واقعية، بأمكنة حقيقة وتاريخ حقيقي، جاعلا الفيروس قاتلا بامتياز "وحده إيبولا الذي يرعى في دم عامل النسيج ودماء الآخرين الذين اقتنصهم من البارحة يعرف ويخطط وينفذ متى ما استطاع".
وعن تجربة إيبولا، يقول تاج السر للجزيرة نت "عام 2012 تذكرت قصة سمعتها من طبيب من أبناء جنوب السودان حين التقيته في عيادة نائية في أطراف مدينة بورتسودان، كان الناجي الوحيد من المرض، إذ مات كل أفراد طاقم المستشفى، وطبيب أرسلته العاصمة للمساعدة، كانت قصة دامية ومرعبة ومحزنة أيضا، ولم تكن هناك أي إمكانيات لمكافحة المرض الذي كان أصلا بلا هوية محددة ذلك الوقت، أثرت فيّ تلك القصة، وظلت في عقلي الباطن، ثم جاءت بعد ذلك نصا روائيا".
ويتابع تاج السر "الذعر والقتل الذي يتمشى في صفحات الروايات لم يمنع الحب والخيانة والأمل واليأس، وكثير مما يعتري الناس الحضور رغم أنف الوباء"، داخل بيت لويس نوا كانت لزوجته أفكار أخرى بعيدة تماما عن الفزع والموت والدم، أفكار الخصوبة المتأخرة، واحتمالات الحمل من عدمها.
وبسؤاله: هل شكل كون مؤلف إيبولا طبيبا دافعا له؟ يجيب تاج السر "أظن أن مهنتي كطبيب ساعدتني في المعلومات، وأتاحت لي فرصة أن ألتقي الطبيب الذي حكى لي القصة".
- الحب في زمن الكوليرا
في أغلب الروايات التي تناولت الأوبئة كانت القصص الإنسانية عناوين جانبية تحت عنوان رئيس هو اسم الوباء، لكن الروائي نوبل غارسيا ماركيز جعل الحب محور روايته، حب معتق لم ينل فيه الحبيب بغيته إلا بعد عشرات السنين.
أما الكوليرا فمثلها مثل الحروب الأهلية وأحداث كثيرة، لكن بطل غارسيا (فلورنتينو) استطاع توظيف الوباء، فعامل التلغراف الذي أضحى مالكا لمركبات نهرية، واستطاع بعد 53 سنة أن يكون برفقة محبوبته، لكن حركة الركاب والتوقف في مرافئ نهر مجدلينا يقلقان البطل، وعندما سأل القبطان عن سبيل لتجاوز ذلك قال "السبيل الوحيد الذي يتيح القفز فوق كل شيء هو وجود مصاب بالوباء على متن السفينة" ورفع العلم الأصفر، في إشارة إلى الوباء، وأنه زمن الكوليرا.
في زمن كورونا حجرت سفينة يابانية بداية فبراير/شباط الماضي، لكن الواضح أن الذي سكنها الذعر، أما خلاف ذلك فلم نعلم بعد.
وبينما تنتشر عدوى كورونا يوما بعد آخر في العام الجديد الجاري لكنها مثل أوبئة ضربت البشرية ستكون تاريخا بلا شك وحكايات نراها اليوم، بل ربما كنا جزءا منها، ويستطرد كاتب "إيبولا" في إفادته للجزيرة نت "الآن كورونا يحدث أسى مضاعفا بسبب انتشاره العظيم في كل مكان وبسبب ضحاياه الكثيرين، ومؤكد سيأتي من يكتبه في رواية ذات يوم".