دلالات ترشح الغنوشي للانتخابات التشريعية في تونس.. رهانات حزبية ورسائل خارجية
أعلنت حركة "النهضة" التونسية رسميا، اليوم الأحد، ترشيح رئيسها، راشد الغنوشي، على رأس قائمتها للانتخابات التشريعية في دائرة تونس 1 (العاصمة وضواحيها مقسّمة إلى دائرتين انتخابيتين) لتنزل بكل ثقلها إلى الانتخابات التشريعية لخوض معركة قبة البرلمان، الذي تعتبره "النهضة" قلب النظام السياسي التونسي ومصدر السلطة الأول، وتتخذ فيه القرارات المهمة، وتتعطل أيضاً.
وشكّل هذا القرار مفاجأة لعدد من المتابعين في تونس، حيث كان النقاش دائراً حول إمكانية ترشيح الغنوشي للانتخابات الرئاسية، إلا أن الرأي استقر أخيراً على تغيير الوجهة من قصر قرطاج (الرئاسة) إلى قبة باردو (البرلمان) بما يحمله ذاك من دلالات ومعان سياسية كبيرة.
ويحمل قرار الترشيح دلالتين رئيستين، الأولى هي أن الحركة رشحت الغنوشي بما يعنيه ذلك من حجم الرهان السياسي للحزب، والثانية هي أن الغنوشي نفسه قرر أن يترشح ويخوض أول انتخابات في مسيرته السياسية، بعد عقود طويلة من السرية والصراع مع الدولة والعيش في المنفى.
وبهذا المعنى يمكن اعتبار هذا القرار تكريساً لمصالحة "النهضة" والغنوشي مع الدولة بعد ثورة الياسمين، وإعلاناً نهائياً صريحاً عن نهاية هذا الصراع تاريخياً ودخول "النهضة" مرحلة جديدة من مسيرتها، بدأت تدريجياً بعد الثورة بدخول الحركة شيئاً فشيئاً إلى دوائر الحكم والقرار السياسي.
وتعكس كذلك بداية طمأنة وإنهاء لحالة التوجس والخوف التي كانت سائدة لعقود من عودة المعارضين إلى السجون والمنافي، ولم تنته كما يظن كثيرون بدخول "النهضة" للحكومة، فقد أثيرت ضدها قضايا أمنية كثيرة ويتم تهديدها إلى الآن بملفات أمنية من الحجم الثقيل (الجهاز السري والتسفير إلى بؤر التوتر والعلاقات مع متشددين وغيرها من التهم)، ما جعل هاجس الخوف متواصلاً، والعلاقة مع الوسط السياسي متوترة يسودها الشك المتبادل ومناخ واضح من عدم الثقة، وريبة من تغوّل شق على آخر وانقضاض على كل مفاصل الحكم من فريق دون آخر.
ويخوض الغنوشي أول انتخابات في مسيرته الطويلة، فيما يشبه المغامرة السياسية الكبيرة، المحسوبة بالتأكيد، ولكنها تحمل اختبارا لقياس مدى شعبيته بين التونسيين، ومدى أهميته بالنسبة لحزبه وإذا كان يشكل بالفعل رافعة له ودافعا لمزيد انتشارها، أو العكس.
ويعكس ترشيح الغنوشي في دائرة تونس العاصمة بالذات وليس في مسقط رأسه في الجنوب رغبة في خوض هذا الاختبار إلى نهايته، وبرغم أن نجاحه لن يكون أمراً صعباً جداً، مثلما تؤكده الحسابات الأولية، فإن عدد الأصوات التي سيحصل عليها سيكون الاختبار الحقيقي للغنوشي ولـ"النهضة".
ويبحث الغنوشي بهذا الترشح عن شرعية شعبية، بعد الشرعية النضالية في صفوف حزبه، ليوضح جدلاً قائماً في تونس بشأن علاقته بالتونسيين عموماً، وليس "النهضاويين" أو الإسلاميين أو المتدينين ستكشفه نتائج الانتخابات بوضوح، وربما توضح أيضا مستقبل علاقته وعلاقة حزبه بالمحيط الوطني في المستقبل، وقد تفتح أبوابا جديدة أو ربما تغلقها، بحسب ما ستكشفه صناديق الاقتراع.
كذلك يعد ترشح الغنوشي للانتخابات التشريعية خياراً أكثر عقلانية من الرئاسية، بعدما تردد ذلك كثيراً في صفوف حزبه، وكانت هناك نوايا حقيقية بذلك. ولكن الذهاب إلى قصر الرئاسة في قرطاج محفوف بكثير من المخاطر لأن "النهضة" لا تضمن فعليا إلا ما تأكد لديها من حجم أصوات في كل الاستحقاقات السابقة، وهو رصيد لا يزيد كثيرا عن حوالي 25 بالمائة من إجمالي الأصوات، رقم يمكن أن يحملها للدور الثاني ولكنه لا يكفي للفوز بالرئاسية، ولكنه في المقابل يشكل ورقة تفاوض عالية الأهمية إذا لم ترشح "النهضة" واحدا منها، وهو جوهر الاستراتيجية الانتخابية النهضوية.
ويتساءل مراقبون إذا ما كان ترشيح الغنوشي، بما هو رمز لحركته، عامل قوة لـ"النهضة"، أم سيتحول لسبب لتجميع خصوم الحركة المشتتين في أغلب التيارات والأحزاب الأخرى، والتي ستجمع قواها وستركز حملاتها الانتخابية على محاولة إسقاط الغنوشي أو الحد من نجاحه على الأقل.
ويرى مراقبون أن الغنوشي لا يسعى لأن يكون مجرد نائب في البرلمان، وإنما هي خطوة أولى قبل أن يترشح لرئاسته، ليبرم في نهاية مشواره السياسي عقدا جديدا مع الدولة والسلطة من خلال تقلّد أحد أهم مراكزها، ولكن ذلك سيستوجب عقد شراكات وتحالفات جديدة مع بقية منافسيه، سيتحدد ليلة السادس من أكتوبر/تشرين الأول القادم عندما تبدأ أولى الأرقام في الظهور.
كما يحمل ترشح الغنوشي للانتخابات التشريعية عدة رسائل مهمة للخارج، فهي إشارة عالية الوضوح للإسلاميين في دول كثيرة بأن الشرعية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا شرعية قانونية ودستورية عبر خوض الاستحقاقات الانتخابية الشعبية، ولا تكتسب إلا عبر الصناديق، ما يعني ضرورة إبرام عقد مع الدولة ومصالحة الناخبين ودخول غمار العمل السياسي من بابه الواضح، والإلحاح على ذلك برغم القيود المفروضة في أكثر من دولة عربية.
ويوجه الغنوشي أيضاً رسالة للغرب من أن نظرية الإسلام الديمقراطي التي يروّج لها ليست فقط للاستهلاك السياسي وإنما يسعى حزبه لتطبيقها من خلال الخضوع لرغبة الناخبين والاحتكام لها، وأن تونس بالذات بصدد تأكيد استثنائها في المنطقة ومواصلة مغامرتها المحفوفة بالمخاطر، وهي الأسباب نفسها التي ستدفع خصومها على الأغلب لبذل مزيد من الجهد من أجل تعطيلها.